بني صدر.. قصة رئيس إيراني اختبأ من بطش الخميني تُفيدنا كتب التاريخ أن التحالفات التي تقوم بها القوى السياسية المعارضة للسلطة غالبا ما تنتهي بتطاحنات دموية بعد نجاح المهام الثورية، وهو المعطى الذي أكدته الثورة الفرنسية سنة 1789م عندما انتهى الأمر بجميع رموزها إلى المقصلة التي تم تثبيتها لإعدام فلول النظام السابق، والمعارضون لمبادئ الثورة كما سطرها روبسبيير، والذي سينتهي به الأمر تحت المقصلة جسدا بدون رأس. سيتكرر المشهد نفسه مع الثورة البلشفية التي قادها فلادمير لينين سنة 1917م عندما قام الحزب البلشفي بتصفية جميع المعارضين، خصوصا خلال العهد الستاليني، ومن أبرزهم الروائي العالمي مكسيم غوركي وإيد كيروف وغريغوري زينوفايف. وهو ما يقطع أن الأشكال العنيفة للتغيير غالبا ما تنتهي إلى تصفية حسابات بين زعماء التحرك الثوري تنتهي بانفراد أقواهم أو أدهاهم بالحكم المطلق. في هذا السياق، لن تحيد الثورة "الخمينية" عن باقي الانحرافات التي عرفتها أهم الثورات التي عرفها العالم، حين انبرى نظام الملالي في إيران إلى تصفية خصوم الثورة قبل أن تمتد أيديه إلى البطش بشراكهم في الانقلاب على نظام الشاه محمد رضا بهلوي، والذين انتهى بهم مصيرهم إلى أعمدة المشانق أو إلى الموت في ظروف غامضة أو النفي من بلادهم، ليعيشوا بقية حياتهم في حالة من الشتات في ظل الحكم الديكتاتوري لنظام الولي الفقيه. وكما سبق وأن أصلنا لذلك في الحلقة السابقة، لم يكن الخميني البطل الوحيد للثورة، بل كان أحد أضلاعها فقط، إن لم نقل الضلع الأضعف فيها. وحتى الثورة لم تكن في بدايتها "إسلامية"، بل شارك وساهم فيها جميع أطياف الشعب الإيراني، شيوعيون وليبراليون وعلمانيون ورجال دين، غير أن الخميني، وكما استطاع الالتفاف على الطموحات السياسية لزعماء هذه الأطياف السياسية والإيديولوجية، استطاع أن يفتح شرخ بين هؤلاء الزعماء ليقوم باستئصالهم بالتتابع إلى أن انتهى به الأمر بتصفية أقرب مقربيه، ليصبح هذا التقليدي الإرهابي معطى ثابت في تعامل نظام "المرشد" مع المخالفين ولم كانوا ينتمون إلى المربع المقرب لنظام الملالي في إيران. طالقاني ولد محمود طالقاني عام 1911 في شمال إيران لعائلة دينية، ودرس العلوم الفقهية في مدينة قُم، وكان من أبرز رجال الدين المناهضين للشاه وعضوًا بارزًا في حركة الحرية الإيرانية المعارضة. كما أن طالقاني كان على اتصال دائم بالخميني في منفاه، وساعده في تأسيس قاعدة شعبية مهمة ساهمت في إنقاذ الخميني من حبل المشنقة بعد خطبته الشهيرة ضد الشاه، كما مهدت لوصوله إلى السلطة بعد عودته من منفاه في فرنسا، ليتم تعيين طالقاني عضوا في المجلس الثوري، في الوقت الذي تحدثت فيه بعض المصادر على أنه كان رئيسه السرّي. بدأت بوادر الاحتكاك بين الرجلين تظهر جليّاً، في ظل الميولات اليسارية لطالقاني ورفضه للسلطات الواسعة التي منحها الدستور لرجال الدين، خصوصا وأن طالقاني كان من المؤسسين لتيار "نهضة الحريّة" الذي تزعمه إلى جانب نوري بازركان. يقول مجتبي طالقاني الابن بأن والده "كان يعمل جاهداً على ألّا يكون البديل عن الشاه رجلاً من رجال الدين، وكان يدفع القوى الوطنيّة حينذاك لتأسيس جبهة موحّدة. بعد الثورة كان قلقاً خصوصاً من رجال الدّين الذين کانوا يُعدّون أنفسهم للقبض على السلطة عبر قمع المعارضين الآخرين الذين ساهموا في انتصار الثورة". سيصل الصراع ذروته بين الخميني وطالقاني عندما قام هذا الأخيرة بإلقاء خطبة شهيرة في جامعة طهران قال فيها "أنا الآن خائف من عودة الاستبداد مرة أخرى إلى إيران، لكن في هيئة جديدة". وأكيد أن طالقاني كان يقصد بالاستبداد ديكتاتورية الملالي تحت مظلة الخميني، ليصدر هذا الأخير أمراً باعتقال نجلي طالقاني. على إثر هذه المواجهة مع الخميني، سيقرر طالقاني اعتزال العمل السياسي والمهني ومغادرة طهران إلى وجهة لم يعلن عنها، ليُخَلِّف اعتزاله ردة فعل عكسية لدى الجماهير الإيرانية التي نزلت إلى الشوارع تهتف بشعار "يا طالقاني أنت روح الثورة، ونحن نحبك". هذا التحرك الشعبي أحرج الخميني الذي ضغط على طالقاني للظهور في وسائل الإعلام المحلية والتعبير عن أسفه عن خطبة جامعة طهران. غير أن نظام الملالي سيعلن، في سبتمبر 1979م، عن وفاة طالقاني على إثر، ما اعتبروه، مضاعفات آلام الصدر. غير أن شكوكا كثيرا ظلت قائمة حول وفاة طالقاني، خصوصا وأنه لم يسبق له أن اشتكى من مشاكل تنفسية أو قلبية. وفي هذا الصدد يقول طالقاني الابن "كنت دائماً ملازماً لوالدي، ولكن لضرورات عائليّة ذهبت مع والدتي إلى مشهد، استغلّ المتشدّدون غيابي فأبعدوا الحرس عنه وقطعوا خطّ الهاتف، وعندما أصيب بعارض صحّيّ، كان هناك أربعة مستشفيات قريبة من المنزل لم يُنقل إلى أيّ منها. وعندما طلبت العائلة تشريح الجثّة لمعرفة سبب الوفاة الحقيقيّ رفضت السلطات بحجّة أنّ المتوفّى رجل دين! وأعلنوا أنّ الإمام توفّي بسبب ذبحة قلبيّة". وبوفاة طالقاني تكون الثورة الإيرانية قد فقدت أحد أبرز وجوه الاعتدال التي كانت قادرة على الوقوف في وجه الخميني ورجال الدين، في ظل الشعبية الجارفة التي كان يتمتع بها الرجل. شريعتمداري: منقذ الخميني وُلد محمد كاظم شريعتمداري في مدينة تبريز عام 1905، وكان من أهم رجال الدين المعارضين لنظام الشاه. ولعل قوة شريعتمداري استمدها من علاقاته القوية بالأقليات في إيران، مما جعله من أهم الوجوه الثورية وأحد أعضاء المجلس الثوري. هذا المعطى دفع بالشاه محمد رضا بهلوي إلى اللجوء إلى شريعتمداري لمساعدته على اختيار حكومة تمتلك قاعدة شعبية في إيران، إلا أنه رفض العرض مفضلا الاصطفاف إلى جانب المعارضة. وبعد خطبة الخميني الشهيرة، قام الشاه بإصدار أمر اعتقاله، وحكم عليه بالإعدام، ليقوم آية الله شريعتمداري بالتدخل لإنقاذ الخميني، حيث أصدر مرسوماً يعتبر فيه الخميني أحد أكبر المرجعيات الدينية في إيران، وأنه حاصل على رتبة "مجتهد"، وهي الدرجة العلمية الرفيعة التي تمنع القانون من إصدار أوامر الاعتقال وتوجيه التهم لأصحابها، ليغادر الخميني السجن متجها نحو تركيا. بعد نجاح الثورة، أسس شريعتمداري حزب "الشعب الإسلامي"، ليصطدم بعدها بإصدار الدستور الإيراني الذي يعطي صلاحيات مطلقة للمرشد الأعلى، وهو ما رآه يشكل خطرا على إيران، على اعتبار أن رجال الدين يجب أن يحظوا بصلاحيات جد محدودة في ظل مجتمع متعدد التوجهات والانتماءات والأعراق. «الإعدامات بعد الثورة تبدأ بالسفهاء وتنتهي بالعقلاء، وللأسف هذه حال ثورتنا، فقد أعدم النظام كثيراً من العقلاء» * أبو الحسن بني صدر* رأى شريعتمداري أن الخميني في الاتجاه إلى أن يصبح الشاه الجديد بمرجعية دينية تحصنه من المتابعات والملاحقات القانونية، ليقرر الخميني التخلص من هذا الصوت المعارض الذي يقف أمام تمتع رجال الدين في إيران بسلطات واسعة وغير محددة. سيصل الصراع بين الخميني وشريعتمداري ذروته عندما قاد، هذا الأخير، مظاهرات سلمية للاعتراض على إقصاء التيارات السياسية المختلفة والمجموعات العرقية من الحكومة. وفي سنة 1982م، سيتم اتهام شريعتمداري بالتآمر للإطاحة بنظام الحكم والتخطيط لاغتيال الخميني، ليتم تجريده من درجة "آية الله" العلمية، ووضعه تحت تدابير الإقامة الجبرية. ولم يكتف الخميني بهذا، بل أجبره، هو وعائلته، على الظهور أمام التلفزيون الرسمي والاعتراف بالتهمة التي رسم أركانها نظام الخميني. كانت هذه الضربات المتتالية كافية لدخول شريعتمداري في أزمات صحية متتالية انتهت بإصابته بالسرطان، لينتقل إلى دار البقاء في أبريل سنة 1986م، وتُجبَر عائلته على دفن جثمانه سرًّا وفي وقت متأخر من الليل خوفًا من تجمهر الشعب الإيراني في الجنازة. وبذلك طويت صفحة أخرى لأهم الشخصيات الثورية التي وقفت في وجه الخميني ورفضت حكم الملالي في إيران. صادق قطب زاده: ضحية مؤامرة المرشد وُلد صادق قطب زاده في طهران عام 1936، وكان من أشد المعارضين لنظام الشاه، وبالرغم من ذلك لم يتحالف مع رجال الدين في البداية ضده. غادر إيران نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية في عام 1959، لينشغل بالأمور السياسية، وتنظيم مظاهرات معادية للشاه كلما حضر، هذا الأخير، إلى واشنطن. ونتيجة لنشاطاته المتزايدة، طرد صادق قطب من الولاياتالمتحدة سنة 1970، وحصل على اللجوء السياسي في سورية. في عام 1976 غادر قطب زاده نحو باريس ليعمل كمراسل لصحيفة "الثورة" السورية. (المثلث الإيراني، شاموئيل سيغف، ص 93). وفي عام 1977 انضم زاده إلى الخميني في العراق، وعندما طرد الخميني من العراق في أكتوبر 1978، انتقل معه إلى باريس ومن ثم عين مديراً لمحطة التلفزيون في النظام الثوري. اعتُبر صادق قطب زاده المستشار الخاص للخميني ومترجمه الشخصي عندما كان في منفاه بباريس، ليتم تعيينه وزير خارجية الحكومة المؤقتة بعد عودة الخميني، ويقال أنه لولا صادق قطب زاده لما استطاع الخميني خدعة الغرب حول طبيعة نظام الحكم الذي يتم التحضير له في إيران. سيتولى زاده مسؤولية تدبير قطاع الإذاعة والتلفزيون وحصل على عضوية "المجلس الثوري". وقاد قطب زاده الوفد المفاوض في أزمة الرهائن الأمريكية، ليبدأ، بعد ذلك، صراعه مع رجال الدين عندما سيطروا على البرلمان، فقرر اعتزال العمل السياسي والتفرغ لدراسة الفلسفة. في عام 1982 اعتقل الخميني صادق زاده بتهمة زرع متفجرات قُرب بيته بإيعاز من شريعتمداري وأجبره على الاعتراف في التلفزيون، وحوكم في إيران محاكمة ثورية بسبب ما نسب إليه من تهم "جاهزة" تتعلق بالتجسس والاتصال مع أعداء الثورة ونفذ فيه حكم الإعدام. (عبدالرؤوف الريدي: رحلة العمر، ص 342) وحول هذا الاتهام قال آية الله منتظري في كتابه "الذكريات": "إن التهم مزورة والهدف منها اتهام شريعتمداري بالضلوع في المؤامرة للقضاء عليه"، كما ذكر منتظري أن أحمد الخميني ذهب لصادق قطب في السجن وقال له اعترف وسيعفو عنك المرشد وبعد اعترافه تم إعدامه في 1982. أبو الحسن بني صدر: آخر الثآئرين وُلد بني صدر في محافظة همدان عام 1933 من أسرة يغلب عليها طابع الالتزام الديني، حيث كان والده من أصدقاء الخميني المقربين. التحق أبو الحسن بالنضال الجماهيري لإسقاط حكم الشاه في إيران ليتم إلقاء القبض عليه في مرات عدة، انتهت به إلى مغادرة إيران في اتجاه باريس، حيث التحق بالخميني وأُعجب به معتبرا إياه، في إحدى شهاداته، والده الروحي. استغل الخميني ثقة بني صدر ليضمن ولاءه، واعدا إياه بحكم ديمقراطي في إيران تكون فيه الكلمة العليا للشعب. غير أن الخميني انقلب على جميع الوعود التي قطعها على نفسه، من خلال تمكينه الملالي من إحكام القبضة على السلطة في إيران. بعد قيام الثورة شغل أبو الحسن مناصب كثيرة، فكان وزيرًا للمالية، وشارك في الحرب العراقيةالإيرانية، ودافع عن توقيع اتفاقية وقف الحرب بناء على ملتمس تقدم به صدام حسين، إلا أن الخميني رفض وقف الحرب مُفضلا إفناء جيل الثورة بالكامل على جبهات القتال. انتُخب بني صدر رئيسًا لإيران سنة 1980م، وخلال هذه الفترة اشتهر بمعارضته لسياسة الخميني، انتهت بارتكابه لخطأ استراتيجي سيكلفه ثمنا غاليا، عندما أقدم على نشر استطلاع للرأي يشير إلى أن شعبية رئيس الجمهورية بلغت نسبة 80%، في حين توقفت شعبية الخميني عند نسبة 49%، وهو استطلاع الرأي الذي نشرته جريدة "لوموند" الفرنسية الذائعة الصيت. هذا المعطى دفع بالملالي في إيران إلى الضغط على الخميني للتخلص من بني صدر، مستغلين الرغبة التي عبر عنها "المرشد الأعلى" للبطش من بني صدر، بعد محاولاته الحثيثة وقف الحرب ضد العراق ونشر استطلاعات للرأي اعتبرت، آنذاك، تحديا لحكم الخميني ولسلطة الملالي. وبعدما أحس بني صدر برغبة نظام الخميني التخلص منه، هرب ليختبئ في مكان سرّي في إيران، رغم كونه كان لا يزال رئيسا للجمهورية، ليستغل علاقته القوية بقائد القوات الجوية الذي ساعده على الهرب إلى فرنسا حيث يقيم إلى وقتنا هذا. انطلاقا مما سبق، يتبين كيف أن الخميني قاد الثورة الإيرانية ضد الشاه، ليقوم بتأسيس نظام دكتاتوري قمعي أشد من نظام الشاه والذي كان أولى ضحاياه رفاق الخميني في الثورة.