عندما تولى الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- قضاء الدلم سنة 1357ه، كان هذا التعيين فألا حسنا لأهالي المنطقة ونهضة علمية؛ حيث عقد حلقة علمية يدرس فيها أبناء الدلم خصوصاً وجنوب نجد عموماً العلوم الشرعية، وتوافد عليه من كل صوب هؤلاء التلاميذ ينهلون من علمه، ومن هؤلاء الشيخ العالم الأديب عبدالرحمن بن محمد بن شعيل. ولد عبدالرحمن بن محمد بن سعد بن شعيل سنة 1347ه، وقرأ وتعلم في كتاتيب الدلم، وحفظ القرآن ونشأ في بيت علم، فوالده الشيخ محمد من طلاب العلم، وقد قرأ والده على الشيخ عبدالله بن مخضوب، وقرأ على الشيخ عبدالرحمن بن سالم، وعُيِّن إماماً في جامع الهياثم، لهذا نشأ الشيخ عبدالرحمن في أجواء علمية. ويروي لي الشيخ عبدالرحمن بن شعيل قائلاً: كنت أصلي خلف الشيخ ابن باز -رحمه الله- صلاة التراويح، وكنت حافظاً للقرآن، ومن تلك الأيام ابتدأت طلب العلم على يد الشيخ ابن باز، وكان والد الشيخ محمد بن شعيل له دور كبير في حفظ ابنه عبدالرحمن القرآن. انضم عبدالرحمن بن شعيل إلى حلقة الشيخ ابن باز وهو صغير السن قبل سن الاحتلام، فقربه لما رأى من نبوغه وحدة ذكائه وفطنته وقوة حافظته السريعة، فقرأ على الشيخ ابن باز «التوحيد» و»زاد المستقنع» في الفقه واللغة العربية والفرائض، ونظم الرجيبة، وقرأ عليه صحيح البخاري وصحيح مسلم، ولازم الشيخ ابن باز مدة ثمانية أعوام متتالية، حتى إن ابن شعيل كان يصحبه في السفر إلى الرياض، حيث كان يسافر كل شهر إلى العاصمة، ليصبح بمنزلة الوالد له. خطوات أولى ويروي الشيخ عبدالرحمن بن شعيل، أن الشيخ عبدالعزيز بن باز كان يشجع التلاميذ الذين يدرسون عليه بأن يمنحهم مكافأة مالية، ولأجل هذا كانت زيارته للرياض لأجل الدعم المادي لهؤلاء التلاميذ، سواء من الحكومة أو من المحسنين، ويقول لي ابن شعيل: إنني عندما انتقلت إلى الرياض وتركت الدلم نهائياً، زرت الشيخ ابن باز -رحمه الله- فقال لي: "عندنا لك مكافأة قدرها سبعون ريالًا"، وهو مبلغ جيّد في ذاك الزمن، فقلت له: "يا شيخ أنا غني عنها، ادفعها لمن يستحقها"، ولقد استفاد ابن شعيل من حلقات ابن باز، وكانت هي الخطوات الأولى في طلب العلم، وأثبت بقدرته وحرصه على الارتواء من علمه، فكان شيخه الأول، وكان من القراء في الحلقة، ومن المقدمين من التلاميذ، ومن الطبقة الأولى من الطلبة في الدلم، بل إن الشيخ ابن باز قال له لما استقر الشيخ عبدالرحمن بن شعيل في الرياض وطلب العلم هناك: "لماذا لا ترجع إلى الدلم؟"، فقال له ابن شعيل: "لقد ارتحت في الرياض، وفرق بين الرياضوالدلم". وحدثني ابن شعيل أنه لازم شيخه الأول ابن باز ثماني سنوات قرأ عليه كثيرا من الكتب والمطولات كتفسير ابن كثير وغيرها من مطولات الفقه والعقيدة، ويروي قائلاً: إن الشيخ ابن باز كان مهاباً وخصوصاً في المجال القضائي، حيث إنه لا يمكن أن يجامل أحداً صغر أو كبر في الحكم وفي مجال التقاضي، وهذا من قوة شخصيته وورعه وتقواه، وكانت كلمته مسموعة في المنطقة، وحينما تشاهده قاضياً فإنما يذكرك بالقضاة الأوائل العظماء في قديم الدهر من القرن الأول وما بعده، ولقد رحل الشيخ عبدالرحمن بن شعيل إلى الرياض واستقر بها. صبر ومثابرة وحدثني الشيخ عبدالرحمن بن شعيل قائلاً: إنني لما رغبت الرحيل ومواصلة طلب العلم قلت لابن باز -رحمه الله-: إن الشيخ محمد بن إبراهيم -مفتي المملكة- لا يعرفني، وأريد أن تعرفه بي، وسكت الشيخ ابن باز، ولما قابلت الشيخ محمد بن إبراهيم راغباً الدرس على يديه والتلمذة قال لي الشيخ محمد: لقد كلمني عنك الشيخ ابن باز. وكم سمعت ابن شعيل يثني كثيراً على شيخه ابن باز في علمه وتقواه وزهده وكرمه وسخائه، ولم تنقطع علاقة التلميذ بشيخه، بل امتدت طويلاً حتى وفاة ابن باز، وعندما نقل الشيخ ابن باز إلى الرياض للتدريس، عادت هذه العلاقة والعود أحمد في المعهد العلمي بالرياض، حيث عُين سماحة الشيخ ابن باز مدرساً فيه، ثم في كلية الشريعة، فكان ابن شعيل من النخبة الذين درسهم الشيخ ابن باز. وبعد دراسة ابن شعيل على شيخه ابن باز درس على يدي مفتي البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم في مسجده بحي دخنة، وسكن في بيت الأخوان وهو سكن التلاميذ المغتربين، وثابر وصبر وصابر في طلب مزيد من العلم، فقرأ عليه الفقه في "زاد المستقنع" مرةً أخرى، وفي التوحيد وفي النحو ألفية ابن مالك وفي الفرائض، وأثبت أنه من التلاميذ النابهين، فداوم على الدرس صباحاً ومساءً في المسجد وفي منزل الشيخ، وكان من التلاميذ النجباء عند ابن إبراهيم، الذي كان يتفرس في تلاميذه ويتبنى منهم نخبة. حسن الصوت ويقول الشيخ عبدالرحمن بن شعيل كان الشيخ محمد بن إبراهيم مهاباً، وكنا نسأله في الحلقة ويقول أحياناً: الله أعلم، إذا لم يعرف الجواب على طريقة السلف أو يسكت، واعتكف ابن شعيل في حلقة الشيخ ابن إبراهيم مدة تقارب عشرة أعوام، وكان ابن شعيل يتميز بحسن الصوت والأداء الجيد والممتع في القراءة، خصوصاً في الشعر والنظم، قرأ على شيخه محمد بن إبراهيم النونية لابن القيم مرتين، وكانت لابن شعيل مكانة وحظوة عند ابن إبراهيم، ودليل هذه الحظوة من الشيخ لتلميذه أولاً: أن الشيخ محمد بن إبراهيم شكل لجنة لقبول المتقدمين لمعهد الرياض العلمي، فكان الشيخ عبدالرحمن بن شعيل من ضمن هذه اللجنة، ثانياً: أن الشيخ محمد بن إبراهيم كانت تصحح عليه بعض الكتب في الفقه الحنبلي، ومنها "موسوعة الفقه الحنبلي"، و"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للعلامة للمردواي -رحمه الله-، وقد اختار تلميذه الشيخ ابن شعيل من ضمن من يقرأ عليه هذا الكتاب، ثالثاً: أن إبراهيم الشايقي أرسله الملك عبدالعزيز إلى الشيخ محمد بن إبراهيم ليختار أحد تلامذته ليقرأ عليه في إحدى الكتب في مجلسه اليومي فاختار ابن شعيل، ويقول الشيخ عبدالرحمن بن شعيل: أبلغني الشيخ محمد بن إبراهيم برغبة الملك عبدالعزيز فذهبت مع الشايقي إلى قصر المربع، وأخبر الشايقي الملك عبدالعزيز بأن القارئ قد حضر، وفي هذه الأثناء حضر القارئ الأول الذي تغيَّب عن القراءة عدة أيام وهو عبدالله القويز، وبعدما حضر رجعت أنا إلى منزلي، ثم أرسل لي الشايقي بأمر من الملك عبدالعزيز منحة مالية قدرها (30) ريالًا فضة، رابعاً: أن الشيخ ابن إبراهيم عيّن تلميذه الشيخ ابن شعيل قاضياً في الرياض العاصمة، وهو الوحيد من دفعته الذي عُيّن قاضياً في الرياض، والرياض العاصمة هي أم المدن السعودية، ولو لم تكن للشيخ ابن شعيل تلك الكفاءة القضائية والقدرة العلمية وهو في هذه السن لما عينه قاضياً من دون أن يكون ملازماً للقاضي، وكان من المتبع أن يتدرب المبتدئ في القضاء بملازمة قاضٍ حتى يتدرب على القضايا، لكن الشيخ ابن شعيل عُين قاضياً من دون ملازمة، مع أنه كاره أشد الكراهية لأن يكون قاضياً. كلية الشريعة وانضم الشيخ عبدالرحمن بن شعيل إلى المعهد العلمي في الرياض، وكان من ضمن الفوج الدراسي الأول في المعهد، ثم لما فتحت أول كلية في المنطقة الوسطي وهي كلية الشريعة سجل فيها وأمضى الأربعة أعوام، وكان قد درَّسهم في الكلية نخبة من الأساتذة من الأزهر، ومن أشهرهم الشيخ عبدالرحمن الوكيل -رحمه الله- صاحب هذه هي الصوفية، ويثني شيخنا عبدالرحمن بن شعيل على أستاذه عبداللطيف سرحان الذي يقول عنه: إنه من علماء الأدب واللغة العربية ومتبحر فيها، وهم أخوة ثلاثة كلهم درسوا في كلية الشريعة، وهم الشيخ محمد سرحان والشيخ عبدالسلام سرحان، وكذلك درَّس الشيخ ابن شعيل الشيخ العالم عبدالرزاق عفيفي الذي كان مستقيماً في دينه وخلقه وفي غاية التواضع، حتى يرفض أن يُقبّل أحد رأسه -رحمه الله-، وكذلك درسه الشيخ عبدالرحمن الأفريقي، والشيخ عبدالعزيز بن رشيد، والشيخ محمد خليل هراس، والعالم المفسر الشهير محمد الأمين الشنقيطي، والمؤرخ حمد الجاسر، ومن زملاء الشيخ ابن شعيل في الدفعة الأولى من كلية الشريعة الشيخ والصحافي زيد بن فياض -رحمه الله-، والشيخ أحمد السليمان، والشيخ عبدالله بن غديان العضو في دار الإفتاء، وكذلك الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم وزير العدل، والشيخ محمد بن دخيل، وكل هؤلاء الذين ذكرت بعض الدفعة الأولى التي تخرجت في كلية الشريعة عام 1376ه. عقلية كبيرة وبعدما تخرّج الشيخ عبدالرحمن بن شعيل في كلية الشريعة اختاره شيخه ومعلمه المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم قاضياً في محكمة الرياض وذلك بتاريخ 13/11/1376ه، وكان لا يريد القضاء، وحاول مع شيخه أن يعفيه من القضاء، لكنه أصر على بقائه في القضاء، وباشر في المحكمة، ومع ذلك لم يترك الإلحاح على شيخه أن يقيله من هذا المنصب الخطير، وبعد مضي سنتين تقريباً ونصف نقل من قضاء الرياض إلى قضاء الخرج، وذلك عام 1379ه، ومع أنه كاره للقضاء ولا يريد الانتقال من الرياض، فكان هذا النقل كذلك حملًا آخر ثقيلًا، وقد انتقل إلى محكمة الخرج وهو يصر على إعفائه كلما سنحت له فرصة اللقاء بابن إبراهيم -رئيس القضاة-، واستمر رئيساً لمحكمة الخرج حتى تاريخ 1382ه، حيث نُقل إلى محكمة الرياض قاضياً مرة أخرى، وقد عُيِّن بدلًا عنه الأديب الشهير حمد الحقيل رئيساً لمحكمة الخرج، ومع الإلحاح الشديد والتكرار المتواصل من ابن شعيل لأن يُعفى من القضاء قُبلت استقالته، وكانت له بشرى وفرحا عظيما لا يوصف في نفسه بعدما أمضى ستة أعوام في القضاء كان فيه ورعاً ذا نزاهة وعفة، وحُمدت سيرته في القضاء، ويا ليته استمر، فهو من القضاة الذين يفخر بهم، فكان سجله في غاية المتانة والحصافة، وقد نهج نهج السلف الأوائل أنه لا يجامل أحدًا في أي قضية مستفرغاً جهده وعلمه وعقليته وفراسته في إحقاق الحق لأهله، ولو استمر لكان مدرسة كبرى في القضاء الشرعي؛ نظراً لعقليته الكبيرة وسعة اطلاعه في العلم الشرعي وأحوال الناس وعاداتهم وتفرسه في سلوكهم، ولكن ورعه وعلمه يقيناً من خطورة هذا المنصب الخطير. عاشق الكُتب وبتاريخ 1383ه استقال الشيخ عبدالرحمن بن شعيل من القضاء نهائياً، وتوجه إلى وزارة المعارف بوظيفة مفتش تربية إسلامية، وعمل مع زميله الشيخ زيد بن فياض -رحمه الله- الذي أصبح فيما بعد مديراً عاماً لدار الكتب الوطنية في الرياض، وكانت أمنية ابن شعيل أن يعيش بين الكتب والمكتبات، فهو العاشق للكتب طيلة عمره وذو اطلاع واسع في الثقافة العامة في التاريخ القديم والحديث، وهو حافظ وناقد لما يقرأ، ويروي قصائد كثيرة من حفظه، وكم مرة سمعته يروي الشيء الكثير من القصائد القديمة من الشعر العربي، يرويه ويتذوقه، فهو راوية إخباري، وقد كتب أول مقالة له في جريدة البلاد السعودية لما كان طالباً في كلية الشريعة عن بلدته الدلم وعن تاريخها القديم، وكتب مقالة عن الشاعر اليمني الفحل عمارة اليمني في مجلة العرب، ولكنه - مع الأسف الشديد - لم يكن مكثراً من الكتابة، ولو كتب لأفاد القراء وطلبة العلم من علمه وثقافته، فالشيخ ابن شعيل كان يقرأ كثيراً في كل ما يمكنه الاطلاع عليه من ثقافات وأدب وفكر معاصر، وكانت مكتبة الرياض السعودية أحد روافد ثقافته حينما كان طالباً، وعنده مكتبة جيّدة في منزله، ويقول لي حينما أصيب بجلطة دماغية: "ليتني فقدت نصف ما أملك من الدنيا أو كل ما أملك ولم أفقد القراءة"؛ لأن الجلطة الدماغية أثرت في بصره. كان لا يشغله عن الكتاب سوى وظيفته الحكومية لما كان على رأس العمل، ولا نبالغ أنه موسوعي الثقافة وليس فقط على مستوى الكتب، بل إنه يعرف كثيرا من أخبار العلماء والأعيان والشخصيات، وكثيراً ما كنت أسأله عن بعض الشخصيات فأجد عنده الجواب، ورأيه في هذه الشخصية ونقده لها أحياناً، فهو ذو بصيرة بالناس، وقد استفدت منه كثيراً من الأخبار والحوادث والقصص. قامة علم وبعد أن مكث الشيخ عبدالرحمن بن شعيل في وزارة المعارف عدة سنوات، عُين في وزارة العدل مفتشاً قضائياً، وعين في هذه المدة منتدباً من الوزارة رئيساً لمحاكم الشارقة، حتى ترك العمل الحكومي بعدما أصيب بجلطة دماغية. الجدير بالذكر أن ابن شعيل كان أحد أعضاء المحكمة التجارية التي شكلت في الثمانينات الهجرية، وهي أول محكمة تجارية بالرياض، وشكلت بعضويته وعضوية الشيخ محمد بن جبير، واستمرت مدة من الزمن، وقد ذكرت موسوعة أسبار سطوراً من حياة ابن شعيل بأنه عُيِّن في وزارة المعارف عام 1392ه، وهذا خطأ والصحيح أنه عُيِّن في وزارة المعارف عام 1383ه، ثم عيِّن في وزارة العدل مفتشاً قضائياً. ويُعد ابن شعيل قامة من قامات العلم والأدب في هذا الوطن، وعَلَم من الأعلام في القضاء. الصديقان عبدالرحمن بن شعيل -يسار الصورة- وعبدالعزيز بن سليمان عبدالرحمن بن شعيل في مكتبة دار الكتب الوطنية عبدالرحمن بن شعيل عبدالرحمن بن شعيل -أقصى اليسار- في صورة جماعية في وزارة المعارف