إن دراسة موضوعية للتاريخ الإيراني المعاصر، يفرض علينا أن نموقع الإشكالية في سياقاتها التاريخية والجيوسياسية في ظل ثنائية قطبية عرفت أوجها نهاية عقد السبعينات بعد اجتياح القوات السوفياتية لأفغانستان. وهو ما سيدفع طرفي الصراع إلى محاولة وضع اليد على إيران، خصوصاً وأن الاتحاد السوفياتي، بعد إخضاع العاصمة كابول، كان يرى أن ما يفصله عن مياه المحيط الهندي الدافئة هو 500 كيلومتر فقط من الأراضي الإيرانية. في المعسكر الغربي، ورغم التحالف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية مع نظام الشاه في إيران، إلا أنها كانت تتطلع بعين الرضا إلى حكم ديني في إيران يساعدها على مواجهة المعسكر الشيوعي "المُلحد"، في تلك المرحلة المشتعلة من الحرب الباردة. زعماء الثورة ارتكبوا خطأ استراتيجياً أدى لولادة «دولة الفقيه» على الجانب الآخر، يُعتبر "روح الله" الخميني، كما يُطلق عليه أتباعه، من أهم المرجعيات الشيعية على الإطلاق، بالنظر إلى الرمزية القوية للسلطة الدينية المطلقة التي امتلكها على عموم الشيعة باعتباره نائباً عن الإمام المهدي (الولي الفقيه) الذي يُعتبر محور المذهب الشيعي. وتذهب بعض الروايات إلى التأكيد على الأصول الهندية للخميني رغم محاولة ادعائه بأن أصوله تعود إلى قبيلة بنو هاشم العربية. ويُذكر، بهذا الخصوص، أن جد الخميني أحمد بن دين علي شاه، هاجر من الهند إلى النجف لتلقي العلوم الدينية، حيث اشتهر وسط أقرانه باسم أحمد الهندي لانحداره من منطقة كشمير، لينتقل بعدها من النجف إلى مدينة خمين في إيران حيث أقام فيها وعمل قاضياً، ثم رُزق عام 1864م بمولود أسماه مصطفى وهو والد الخميني. هذا الأخير تذهب بعض المصادر إلى أن اسمه الحقيقي هو "سينكا" قبل أن يطلق عليه اسم "مصطفى" (كتاب موسى الموسوي، كتاب "الجمهورية الثانية" ص 352). كما أن شقيق الخميني الأكبر يدعى "بسنديده" وهو اسم هندي بالتأكيد، وكذلك كان اسم شقيق الخميني الأصغر هو "الهندي". الخميني كاره العرب يدعي أصله العربي رغم جذوره الهندية ولعل ما يؤكد هذا المعطى ما ذهب إليه البعض في تشبيه لفظ الجلالة المكتوب على العلم الإيراني برمز الديانة السيخية المنتشرة في الهند، حيث هناك تشابه إلى حد التطابق، وبذلك يكون الشعار مأخوذاً عن معتقدات الهندوس مما يؤكد الجذور الهندية للخميني، والذي من المحتمل أنه اعتنقها ولذلك وضع هذا الشعار على علم "بلده". «ولكن من هو الخميني» (الإمبراطورة فرح بهلوي في أبريل 1978م) ولعل ما دفعنا إلى طرح هذه النقطة أن الخميني ارتقى إلى السلطة في إيران بشكل براغماتي وانتهازي غابت عنه الولاءات الوطنية لهذا البلد. وهنا نسجل ما دار بين الخميني وأحد الصحفيين الفرنسيين حين سأله هذا الأخير عن مشاعره وهو عائد إلى إيران بعد غياب دام ستة عشر عاماً، فأجابه الخميني ببرود "لا شيء". هذا المعطى يتقاطع مع الطرح الإخواني في إنكار رابطة الوطن واعتباره مجرد "حفنة من تراب عفن" بالتعبير القطبي. كما أن الخميني كان يُضمر كرهاً غريباً للعرب رغم أنه كان يزعم أنه ينحدر من أصول عربية. إن سطوع نجم الخميني تزامن مع التظاهرات التي شهدتها إيران سنة 1963م، حيث لم يكن معروفاً قبلها بشكل كبير، خصوصاً بعد اعتقاله وخروج الشعب الإيراني للاحتجاج وتدخل البوليس السياسي "السافاك" لتفريق المتظاهرين مما أدى إلى مصرع عدد كبير منهم. هذا بالإضافة إلى بروز طبقة رجال الدين والذين بدؤوا يعبرون عن معارضتهم لنظام الشاه وهو ما زاد من تلميع صورة الخميني في المجتمع الإيراني. سيعمل الخميني على محاولة استغلال رجال الدين لتوجيه الشارع الإيراني في اتجاه تبني وجهة نظر الملالي، مع التحفظ على المطالبة بالثورة على نظام الشاه رضا بهلوي، وذلك خوفاً من وصول أنصار مصدق من الليبراليين أو اليساريين إلى السلطة إذا ما اندلعت الثورة في إيران في ذلك الوقت، وبالتالي قطع الطريق أمام رجال الدين. في هذا السياق، كان هناك طرفان يخشيان من حدوث الثورة: الخميني والشاه، وهو المعطى الذي دفع الخميني إلى مراسلة الشاه يعرب له عن ولائه وعن "أمنيته أن لا تحدث ثورة في إيران" (شهادة أبو الحسن بني صدر في برنامج رحلة في الذاكرة على قناة "روسيا اليوم")، وهو تكتيك مرحلي يدخل في نطاق التقية السياسية التي اعتمدها الخميني كمعطى ثابت في حكمه لإيران، وهو ما يذكرنا بالتكتيكات الإخوانية التي اعتمدها حسن البنا حين اتجه نحو إبرام تحالف مرحلي مع القصر ومحاولة عزل باقي القوى السياسية في أفق الانفراد بالسراي ومحاولة توجيهه كمقدمة للقضاء عليه. ورغم شهرة الخميني وسيطرته، عمليّا، على الثورة، إلا أنه لم يكن البطل الوحيد لتلك الثورة، التي لم تكن في البداية "إسلامية" بل ساهمت فيها جميع التيارات السياسية في إيران، شيوعيون وليبراليون وعلمانيون ورجال دين، والذين سيلقى، بعضهم، مصيراً تراجيدياً على أيدي نظام الملالي في إيران كما سنرى. ومهما كان موقفنا من الخميني، ومستواه الديني المتواضع، فإن هذا لا يمنعنا من التنويه بدهائه السياسي في تدبير البيئة الاستراتيجية المعقدة في إيران، حيث حافظ على علاقات متميزة مع الشاه في مرحلة ما قبل الثورة، مع مواصلة التنسيق مع باقي التيارات السياسية في إيران لضمان تحالف، ولو في الحد الأدنى، يمكن الانتهاء منه على مستوى حسم السلطة السياسية بعد الثورة. ولعل الخميني قد أخذ بنصيحة أبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية لإيران، عندما نصحه بعدم طرح المشروع السياسي/العقدي لولاية الفقيه طيلة مدة إقامته في فرنسا، حتى لا يثير شكوك باقي الأطياف السياسية حول حقيقة المشروع الخميني في إيران، وبالمقابل تحدث عن "ولاية جمهور مارلو" أي "ولاية جمهورية الشعب"، وأدلى بتصريح صحفي أكد من خلاله أنه "يتخلى" عن فكرته الخاصة بمشروع ولاية الفقيه، ويعتبر أن "الشعب يجب أن يكون هو مصدر جميع السلطات". في هذا السياق، اعتُبِر الخميني مناوراً من الطراز الأول حين أقنع باقي أطياف المعارضة بحاجتهم إلى الخميني كمظلة شرعية ودينية لأي تحرك ضد الشاه، وفي نفس الوقت كان يحضر نفسه لحكم إيران، وهو ما صرح به، ضمنياً، لمحمد حسنين هيكل عندما سأله هذا الأخير عن مدى استعداده لحكم إيران في ظل رفض الشارع الإيراني لحكم رجال الدين، فما كان جواب الخميني إلا أن أحاله على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكيف أنه جمع بين السلطة الدينية والزمنية وبين الرسالة والحكم، وهو ما يفسر نيات الخميني لحكم إيران رغم أنه كان دائماً يصرح أن الشعب الإيراني يجب أن يكون المصدر الأول للسلطات (راجع كتاب مدافع آيات الله لمحمد حسنين هيكل). في نفس السياق، ظهرت النيات الخبيثة للخميني في باريس عندما اقترح عليه أبو الحسن بني صدر أن ينتخب الشعب مجلساً لقيادة الثورة، لكن الخميني ناور والتف حول هذا المطلب لرئيس الجمهورية الإيرانية المقبل، معتبراً أن الشعب الإيراني ليس مؤهلاً بعد لمثل هذه المسؤولية السياسية وأنه يرى "أن ينتخب هو أعضاء مجلس قيادة الثورة". سيستمر الخميني، بعد عودته إلى إيران، في مناورة "حلفائه" السياسيين عندما قام بإصدار مرسوم يقضي بتعيين مهدي بازركان رئيساً للحكومة الثورية بالرغم من أنه وعد حلفاءه بأن الشعب هو الوحيد المخول إليه انتخاب رئيس الجمهورية، وبرر الخميني هذا القرار بضرورة تهدئة رجال الدين الذي يوجدون في حالة من الهيجان ومزاجهم محافظ جداً، وبأنها لحظة ينبغي فيها إرضاء الجميع، وأنه ستأتي اللحظة لوضع الأسس القانونية ليصبح الشعب قادراً على اختيار من يريد بكل حرية. إننا نعتقد أن الزعماء السياسيين الثوريين وقعوا في سوء تقدير لحقيقة نيات الخميني، خصوصاً عندما قبلوا بتعيينه لمجلس قيادة الثورة، حيث إنه، وبعد عودتهم إلى إيران، اقترحوا أن يتولى مجلس قيادة الثورة شؤون البلاد في انتظار تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية. والواقع أن هذا القرار كان يصب في مصلحة الخميني، على اعتبار أنه هو من قام بتعيين أعضاء المجلس الذين كانوا يأتمرون بأمره، وبالتالي سقط زعماء الثورة في سوء تقدير استراتيجي ستكون له انعكاسات خطيرة على مستقبلهم السياسي في مرحلة إيران ما بعد الثورة. وتأتي مرحلة صياغة الدستور الإيراني الجديد، حيث شُكلت لجنة برئاسة حسن حبيبي ولجنة أخرى لتصحيحه برئاسة الوزير يد الله صحابي وعضوية زعماء مجموعة من التيارات السياسية ومن بينهم أبو الحسن بني صدر ومهدي بازركان، وأُرسلت مسودة الدستور إلى الخميني في قم قصد عرضها على رجال الدين، وهناك قام الخميني بإدخال (8) تعديلات كان تصب معظمها في إطار تقوية نفوذ رجال الدين في المسائل الحساسة للدولة، حيث ضغط الخميني في اتجاه تأسيس مجلس دستوري بشكل يقرر فيه رجال الدين في مدى مطابقة جميع توجهات الدولة للشريعة الإسلامية، وهو ما يعني إخضاع الدولة لحكم نظام الملالي في إيران. على هذا المستوى، ارتكب زعماء التيارات السياسية خطأ استراتيجياً آخراً عندما رفضوا مقترح رجال الدين في اللجوء إلى استفتاء شعبي حول الدستور، وهنا يقول بني صدر، بكثير من الأسى، ما نصه "لكننا ارتكبنا خطأ كبيراً في ذلك الوقت، حيث قلنا إن جميع المسائل يجب أن تُحل في إطار اللجنة الدستورية، وفي الواقع، لو كنا وافقنا، حين ذاك على إجراء استفتاء، لما كانت عندنا اليوم دولة ولاية الفقيه، ولأُقر دستور قائم على إرادة الشعب". ولعل رصاصة الرحمة التي تم توجيهها إلى المناهضين لحكم الملالي جاءت من طرف آية الله محمود طالقاني، حين طرح مناورة "خبيثة" تقضي باقتراح حل وسط بين التيار الديني الذين يتزعمه كل من محمد بهشتي وعلي خامنئي وهاشمي رفسنجاني والذي يطالب بتنظيم استفتاء عام حول الدستور، وبين التيار "العلماني" الذي يقوده مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر الذي طالب بمجلس دستوري من 600 عضو يُشكل فيه رجال الدين الأقلية. ويقضي مقترح طالقاني بتأسيس "مجلس خبراء القيادة بحيث تَنتخب كل محافظة من أربعة إلى خمسة أشخاص يمثلونها بالمجلس الدستوري، وبهذا النحو يكون في المجلس بين 70 و80 شخصاً، وهذا يكفي". وافق بني صدر وبازركان على هذا المقترح الذي أفرز مجلساً يمتلك فيه رجال الدين أغلبية كبيرة، وكان هذا بمثابة الضربة القاضية للتيار المناوئ لحكم رجال الدين، حين رفض هؤلاء الدستور المقترح من طرف التيار الليبرالي والعلماني، معتبرين أنه يتعارض مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، وهو ما ذهب إليه الخميني أيضاً. انطلاقاً مما سبق، يتبين كيف أن الخميني ناور، قبل الثورة وبعدها، من أجل التمكين لحكم الملالي في إيران، مستغلاً في ذلك عدم التنسيق في المواقف بين التيارات المعارضة، ليتمكن من وضع يده على حكم إيران، وترسيخ حكم مطلق للملالي. إن وضع اليد على إيران و"التمكين" لحكم الملالي، لم يكن، في الحقيقة، إلا المرحلة الأولى في مخططات الخميني، والذي سيعمل على تصفية جميع الأصوات المعارضة له ابتداء من حلفاء الأمس الذين شاركوا في التجييش للثورة ضد الشاه محمد رضا بهلوي وكانوا سنداً له للوصول إلى الحكم، وهو موضوع الحلقة المقبلة بإذن الله.