تستوقف جمهور الفن الجرأة التي تتعامل بها مع المواد الفنانة الألمانية «كاترينا جروس Katharina Grosse» من مواليد عام 1961، حيث تسكب الألوان كأنهار على قماش يتدفق أيضاً ليجري على الجدران، ويشكل موجات على الأعمدة والأسطح والأرضيات، تشعر بأنك ملاحق بانهيار لوني، موج فوق موج من ألوان الأكليريك الصارخة بين البرتقالي والأحمر الناري والأصفر الشمسي والأخضر الجريء، جرأة تجعل الألوان المتنافرة تخضع لإرادة الفنانة كاترينا جروس وتتحول إلى ما يشبه تدفقات أقواس قزح بلا عدد. ما إن تأخذ خطوتك الأولى في معرضها ب»الجاليري الوطني The Nationale Gallery» في براغ بالجمهورية التشيكية حتى تجرفك الألوان، تجرفك مخيلة هذه الفنانة التي لكأنما تستقي وحيها من السعير بجوف الكرة الأرضية أو من باطن الشمس، في البدء لا تفهم ماذا تريد أن تقوله الفنانة بعملها التركيبي ذاك، وبتلك الشرخات من ألوان صارخة، ثم لا تلبث أن تتبخر حتى رغبتك في الفهم، تدرك في وعيك الباطن أن الفهم لا يهم، وجل ما يهم هو أن تستسلم لذلك الانجراف، أن تفقد السيطرة وتغطس في حيوية اللون، في ذلك الحوار البهيج من السطوع، شيء داخلك يدفعك للصراخ، تطلق كل ما تم كبته عبر السنين من إحباطات ورغبات. لا تريد كاترينا جروس أن تقول أي شيء، فقط أن تطلق تلك الصرخة الأشبه بصرخة ولادة ثانية. هدف الفنانة بأعمالها التركيبية الصارخة هذه أن تستكشف كيفية عمل اللوحة التجريدية في حقل ثلاثي الأبعاد، ولقد توصلت إلى هذه الصيغة التعبيرية بعد ممارسات طويلة للفن التقليدي في أعمال تستخدم الهندسة المعمارية والنحت والرسم، صبت كل تجربتها في هذه التركيبات الأقرب إلى العشوائية، فنجد الفنانة جروس تنهمك في إعداد أمتارٍ من الكانفاس الملون بلطخات تجريدية، ثم تبسط تلك الأمتار المجردة لتُرَكِّب منها تلالاً وودياناً وجدراناً وأسقفاً وموجات بحر، بل تتدفق خارجة من الاستوديو لتغطي كل ما حولها، وتخلق طبيعتها الوحشية الخاصة القائمة من الألوان، وتنجح في النهاية في تجسيد التجريد. عمليتان إبداعيتان تتناقضان في المبدأ، لكن لا تلبثا أن تتوافقا وتتماهيا لتمنحا تركيباتها العملاقة معنى وحضوراً منسجماً، لكأنما تخلق كاترينا جروس كوكبها الخاص، كوكبا يذكر بالعواصف التي نجح أخيراً العلماء في تصويرها ل «جوبيتر» أكبر كواكب المجموعة الشمسية، لكأنما سبقت مخيلةُ هذه الفنانة كلَّ المراصد وكاميرات تصوير القمر الصناعي «جونو Juno» ،الذي تفخر «ناسا» بتوصله إلى بث صور نادرة لذلك العالم الغريب، إلا أن لمحات من تلك الغرابة قد سبق أن تسربت لمخيلة كاترين جروس وتنفضح في أعمالها المذهلة هذه. هو في النهاية حدس الفنان يخترق الحُجُب وينفذ إلى ما وراءها، ما يدفع إلى التساؤل «الفن أم العلم»؟ أيهما يلمس ويقدم «الحقيقي»؟ وأيهما يلمس ويقدم «الوهم»؟ وما ماهية الوهم والواقع؟ وربما كلاهما واحد.. وهل في النهاية كل ما توصلت إليه البشرية ما هو إلا من الوهم وإليه؟ سؤال لا إجابة له إلا على الباب حين مغادرتنا لهذا العالم.