انفتحت أمامنا على شواطىء المحيط الأطلسي بالبرتغال وفي هذه البقعة المعروفة لدى الأهالي بنهاية العالم، إذ وفي هذه النهاية اختار الفنان البرتغالي أمانسيو جيديس Amancio Guedes والمشهور باسم بانسو جيديس من مواليد عام 1925 أن يباغتنا بمتاهة، هذا العمل الذي يقودك في ممرات إسمنتية مصمتة يترك لك الخيار أن تضل بتلك المتاهة ثم وفجأة يفتحك على الأحمر بلون الدم الغطيس كباطن شرايينك، وبمواجهة ذلك البطن تجد نفسك واقفاً على شبكة حديدية منصوبة على هوة بلا آخر، ومن تلك الهوة ينبعث هادراً صوت المحيط.. ترتج البقعة من ذاك الهدير ويرتج كامل كيانك بنداء هو بعمق النداء الذي تخلقت منه الأكوان وبقلبها أنت، على تلك الهوة تستلقى وتتدرك للبدائي أن يأخذك... تدرك أن هناك نفق ينفذ بسرية من قاع الجبل المهول، يتدفق كشريان لقلب الصخر ويأتي بصرخة المحيط... تستلقي مبهوراً ليصعقك المشهد فوق رأسك، إذ نجحت عبقرية الفنان في تحويل جدران المتاهة لترسم في مجموعها مفتاحاً، مفتاح عملاق مفتوح على السماء، وترتج أحلامك وتوقك بانتظار أن يفتح لها ذلك المفتاح مغاليق السموات والأرض... وبالبحث تجد أن المتاهة العبقرية التي تقود لمفتاح السماء هي من إبداع هذا العبقري البرتغالي الذي رحل عن عالمنا عام 2015 تاركاً بصمته العميقة على الفن العالمي وينجح في مس مشاعر الخاصة والعامة من زوار تلك البقعة أو نهاية العالم. يتفوق بانسو جيديس Pancho Guedes على الفناء بإبداعاته المتعددة الوجوه وجرأة رؤيته سواء في ميدان العمارة أو النحت أو الرسم، والذي سبق عصره وبشر بما بعد الحداثة قبل عشرين عاماً من ظهور هذا المصطلح، ويرجع ذلك السبق لتعدد ثقافته، فمن المعروف بأن بانسو جيديس قد قضى معظم حياته بجذر القارة الأفريقية في موزامبيق وذلك منذ أن انتقلت أسرته من لشبونة حين كان في السابعة من عمره فلم يطأ القارة الأوروبية حتى بلغ السابعة والعشرين من العمر، ترعرع بانسو ما بين انفتاح المحيط الهندي والثراء الإفريقي، حيث صاغت رؤيته فنون هذه القارة وتماهت بانسجام مع ثقافته وجذوره السوريالية التي تشكلت من قراءته ورحيله في أوروبا بمجرد تخرجه من الجامعة، رحيل بين الأسود والأبيض أنتج بالنهاية بصمته الفنية الفريدة، والتي تترجمت سواء في منحوتاته وأعماله التركيبية الفنية أو في تصميماته المعمارية لمايزيد عن ال 500 من العمائر المبدعة التي توزعت بين جنوب أفريقيا وأنجولا والبرتغال. والمثير أن بانسو جيديس قد ولد بتك الرسالة التجديدية، فلقد ظهر شغفه المبكر بكل ماله علاقة بالفن، وبالذات النحت، إلا أن نحت عمل هنا وآخر هناك لم يشبع ذلك الجوع الأزلي داخله لإحداث تغيير بحجم الأفق، أو لخلق منحوتة بحجم الأفق، ومن هنا جاء دور معلميه، فلقد كان محظوظاً بالتتلمذ في الجامعة على يد معماريين كبار ومنهم جون فوسلر John Fossler والذي يرجع له الفضل في اقناعه بأن العمارة هي فن جامع لكل الفنون من التصميم والنحت والرسم وتصميم الديكورات الداخلية وتصميم الفضاءات الداخلية الحضرية وفضاءات الطبيعة لخارجية. ومن تلك القناعة انبثق حلم جيديس بخلق مدينته الطوباوية ريناتا Ruinata, مدينة تطلق فيها أيدي الفنانين ليرمحوا بمخيلاتهم، ريناتا مدينة ينطلق فيها الفنانون بحرية يبنون خيالاتهم الجامحة، مدينة بشر بها جيديس في محاضراته و نظرياته. وأخيراً وفي متاهته بآخر العالم نجح بانسو جيديس في خلق هذا الحس بالحرية المطلقة، ونجح في خلق هذه المنحوتة التي طالما حلم بها وبحجم السماء، عمل يستحق الوقوف وحري بأن يرفع اسم هذا العبقري الراحل ضمن مصاف الطبقة المصطفاة من فناني العالم الذين تربعوا في تاريخ الفن. Your browser does not support the video tag.