ثمة علاقة لا بد من مقاربتها بين تعليم الفلسفة والتفكير الناقد، وهي العلاقة بين المعلم والمادة؛ إذ من دون وجود معلمين قادرين على الانتقال بهذه المادة إلى رحاب التفكير النقدي، لن تكون ثمة فرصة لنجاح هذا المشروع، والخشية أن تتحول إلى مادة تلقينية، تهتم ببعض المعارف العامة، التي تستعاد من باب العلم بتاريخ الفلسفة وروادها لا ممارسة التفكير النقدي.. خبر اعتماد تدريس الفلسفة والتفكير الناقد في المدارس الثانوية بالمملكة، حظي باهتمام من يعنيهم أن يتحول التعليم إلى أداة تفكير، من شروطه البناء المنطقي للوصول إلى مرحلة أعلى من الوعي، خاصة في وسط تتراكم فيه التحولات والتغييرات، التي إذا لم تُمرّر من خلال ذهنية قادرة على امتلاك أسس التفكير الناقد، فقد تراكم عقولا مشتتة وعاجزة وغير قادرة على استيعاب الأفكار وفرزها والتمييز بينها، ناهيك عن القدرة على التفكير أصلا. الفيلسوف اليوناني سقراط، كان هدفه تعليم مجتمع "أثينا" توليد المعرفة والحكمة والحقيقة بالاعتماد على عقولهم الخاصة، بدل الاتكال على عقول الآخرين من أولئك السفسطائيين، الذين يوهمون الناس بأنهم يعرفون كل شيء، ولذا جاءت مقولته الشهيرة: "اعرف نفسك بنفسك"، استلهاما لاكتشاف الذات بالاعتماد على الذات. أما النسق الفلسفي لأفلاطون، فقد كان تتمة لنسق أستاذه سقراط؛ إذ دعا الإنسان إلى ضرورة الخروج من كهف الحياة اليومية المسكون بالأوهام، وبأشباه الحقيقة، والتحرر منها لأجل بلوغ الحقيقة العقلية التأملية المطلقة، كخير أسمى ينير حياة الإنسان. بينما أخذ أرسطو على عاتقه صياغة آلة عقلية فكرية تمكن الإنسان الذي يتبعها في نمط تفكيره من تجاوز الخطأ والتزييف، وأن يحرر نفسه وعقله منها بهدف التمكن من ملامسة الحقيقة التي لا يساوره فيها أي شك؛ لأنها منطقية. وهكذا تتابعت عبر العصور قامات فلسفية، تركت أثرا في مسار البشرية كرينيه ديكارت، وتوماس هوبز، وكانت، وفولتير، وجان جاك روسو، وباروخ اسبينوزا، ومن الفلاسفة العرب والمسلمين الفارابي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم، ولولا ابن رشد ما كان لأوروبا أن تكتشف الفلسفة اليونانية -الأرسطية- على وجه التحديد. تدريس الفلسفة والتفكير الناقد في مرحلة التعليم الثانوي، يفترض أن يترك أثرا إيجابيا على عقول تلاميذ يجب أن يمارسوا نوعا من التفكير الناقد، ناهيك عن أن يتعرفوا على تاريخ الفلسفة وأدوارها وتأثيراتها، إلا أن ثمة مسألة يجب أن تكون واردة في حسابات التأسيس والتدريس لهذه المادة، وهي مرتبطة بالتفكير الناقد أولا وأخيرا، ودونها سيظل تفكيرا مهجورا منزويا في بعض الكتب، ولا مجال لإطلاق ممارسته في الحياة. ثمة علاقة لا بد من مقاربتها في تعليم الفلسفة والتفكير الناقد. إنها تلك العلاقة بين المعلم والمادة؛ إذ من دون وجود معلمين قادرين على الانتقال بهذه المادة إلى رحاب التفكير النقدي لن تكون ثمة فرصة لنجاح هذا المشروع، والخشية أن تتحول إلى مادة تلقينية تهتم ببعض المعارف العامة، التي تستعاد من باب العلم بتاريخ الفلسفة وروادها، لا ممارسة التفكير النقدي. كما أن التفكير الناقد مرتبط بمساحة التعبير. وهنا تصبح مسألة الحرية ذات اعتبار كبير في التأسيس لهذا النوع من التفكير. العقل الاجتراري ليس في حاجة إلى مساحة معتبرة من الحرية، إذ يظل في إطار التوجيه والنقل والاستعادة، بينما التفكير الناقد لن يعمل في إطار بيئة تتحكم في مستوى الحرية في التعبير إلى درجة خنق السؤال، مهما تمكن المتلقي من أدوات التفكير المنطقي، وسيكون هذا إشكالا من إشكالات التأسيس والتدريس لهذه المادة الموعودة. من المفهوم أن للحرية حدودا يجب تأطيرها بما يتوافق عليه المجتمع، بما فيها الالتزام بالقيم والمنظومة الأخلاقية والمبادئ الراسخة في وجدان الأمة، إلا أن هناك كثيرا من القضايا التي يمكن أن تكون فيها للعقل والتفكير النقدي مساحة معتبرة لمناقشتها، والتوقف عندها، وبحث شؤونها. ولذا تظل المسألة الأهم، تلك العلاقة بين التفكير الناقد خصوصا والفلسفة عموما ومستوى الحرية في التعاطي معهما. فمن يريد أن يدرس الفلسفة والتفكير الناقد، فعليه أن يضمن مساحة محترمة من الحرية في التفكير والتعبير وإثارة السؤال تلو السؤال. وإذا كانت الفلسفة تبدأ من الحرية الفكرية للإنسان وتصل إليها، وحيث إن المتطلب الأساسي للتفكير الناقد هو ضمان قدر مناسب من الحرية، التي تتمثل في هذا الموضع في مختلف صورها وأشكالها الممكنة، فإنها ستكون دعوة الإنسان إلى ممارسة هذه الحرية في وجوده المعاش. لا معنى لتدريس الفلسفة والتفكير الناقد دون ضمان هذا الجانب، ولا يمكن أن ينتج الإنسان فكرا نقديا وسط تناقضات حدية، كأن يتعلم أسس التفكير النقدي، ولكنه لا يقوى على ممارسته. في كتابه "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق"، يؤكد الفيلسوف "كانت" أن "التنوير، شرطه الوحيد هو الحرية؛ أي الاستعمال العلني للعقل في كل المجالات"، وهو يميز بين الحرية الإيجابية والأخرى السلبية. فالحرية السلبية تلك التي لا تتقيد بمبادئ وواجبات أخلاقية، في مقابل "الحرية الإيجابية" التي تنبني على حرية الفعل وحرية الإرادة الملتزمة بالقانون الأخلاقي.