في السابق كان الأطفال يلعبون لعبة تُدعى (تليفون خربان)، لم يعد أحد منهم اليوم يلعبها، كان تكنيك اللعبة أن يتم في البدء اختيار كلمة بشكل عشوائي من قِبل أحد الأفراد، ومن ثم يتم تناقلها همساً بين فريق اللعبة المتحلق. كل منهم ينقل الكلمة إلى أذن من هو بجانبه، وهكذا دواليك، حتى تصل إلى آخر فرد في الحلقة والذي يعلنها بصوت عالٍ، هنا يبدأ التحكيم هل الكلمة في آخر الأمر بقيت ذاتها كما تم اختيارها في بداية اللعبة؟ إذا كان الأمر كذلك فإن الجميع يكسب، وهذا ما لم يحدث في تاريخ اللعبة، أما إذا كان خلاف ذلك فإنه تتم مراجعة فرد فرد من أعضاء الفريق حتى تتم معرفة الناقل المتعثر الذي أخطأ في سماع ونقل الكلمة وبذلك يكون هو الخاسر. وفي إحدى روايات الأديب نجيب محفوظ روى حادثة وقعت في وسط حارة من الحارات المصرية القديمة، حيث تطل من جانبيها شرفات شقق البنايات، عندما وقعت الحادثة كان يقف البعض في تلك (البلكونات) ولهذا تم استجوابهم، حيث كانوا شهود عيان، كل من كان واقفاً حينذاك شاهد ذات الحدث لكن جاءت شهاداتهم مختلفة! إن ذاكرتنا تشبه ذلك الهاتف المعطل وارتباك سكان الحارة! حيث إن أدمغتنا تحاول أن تستنتج معنى ما نلتقطه بحواسنا، وذلك بالاستناد على خبراتنا السابقة ومكتسباتنا من معتقدات ومفاهيم، ولهذا يكون الدماغ متحيزاً إلى ما نشعر به في تلك اللحظة وما نشعر بأنه صحيح. وأيضاً تمتلك النفس البشرية حيلاً وخدعاً دفاعية لتحميها من الأذى، الذي قد يلحق بها وربما قد يدمرها، فهي قد تطمس أو تغير تفاصيل مؤلمة أو غير محببة أو غير مريحة وذلك حتى لا تؤذينا. لهذا لا يجب علينا أن نثق كثيراً بذاكرتنا، ولا أن نتعصب للزوايا التي ننظر منها إلى الأحداث، فقد تأخذنا نوايانا ودوافعنا إلى أمكنة مخادعة جداً لمصداقيتنا قبل أن تكون كذلك للآخرين، ولهذا علينا أن نضع دائماً أحكامنا وأحكام الآخر والأفكار والفرضيات في موضع الشك والتساؤل.. فكما يقال إن الشك فضيلة إذا كانت كالكلب الذي ينبح ولا يعض! يقول ديفيد كانتر في كتابة (مقدمة قصيرة جداً: علم النفس الشرعي): "أشارت مجموعة دراسات إلى أن شهادة شهود العيان يمكن أن تكون معيبة، حتى عندما يكون الشهود واثقين تماماً من تعرفهم على الجاني، حتى وإن كانت جودة الإضاءة في موقع الجريمة جيدة والمدة التي قضوها في وجود المجرم طويلة، فإن هنالك جوانب أخرى من الحدث نفسه يمكن أن تشوه الذاكرة". يقول الله سبحانه تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين". والفسق ما هو إلا الخروج عن طريق الصواب.