من الألعاب الممتعة التي مرّت علينا ونحن صغار لعبة الهاتف المتعطِّل («تلفون خربان»)، وهي أن يهمس أحدهم بعبارة في أذن طفل آخر مرة واحدة فقط بدون تكرار، ثم يهمسها الثاني لطفلٍ ثالث، وهكذا، حتى إذا وصَلَت لآخرهم قالها بصوتٍ عالٍ ليسمعها الجميع، فأحياناً تكون العبارة سليمة كما هي، انتقلت من أول شخص في السلسلة إلى الأخير بدون تغيير، لكن في أحيان كثيرة تكون قد تغيّرت (وهنا تكون اللعبة ممتعة)، فيكون أحدهم في تلك السلسلة لم يسمعها جيداً ممّن تلاها عليه، فينقلها بنفس الطريقة المشوّهة التي سمعها، والذي بعده قد لا يسمعها جيداً كذلك فيزداد التحريف، حتى إذا وصلت لآخر شخص وقالها جهراً كانت عبارة مختلفة تماماً عمّا قاله أول شخص! وهذه رغم أنها لعبة إلا أنها تُبيّن ظاهرة شديدة الانتشار بين الناس، وهي تحريف الأخبار والكلام، فقد يحصل شيء في مكان ما ويأخذ شخصٌ ما هذا الخبر بشكلٍ ناقص وينقله لمحرر في صحيفة، فتنشره الصحيفة بهذا النقص، وربما يقرأها قارئ فينسى بعض التفاصيل، فينقل الخبر لغيره بشكل مُحرّف، وهكذا دواليك حتى تختلف تفاصيل الخبر بشكلٍ كبير عمَّا حصل في الواقع. ويحصل هذا كثيراً جداً مع المَقولات، فيقول شخصٌ كلاماً ولا يصل للناس إلا بعد تحريفٍ شديد - أحياناً خطأً وأحياناً عمداً -، ولهذا يجب أن يتأكد الشخص من صحة كلامٍ ما، فمجرد سماعه من شخصٍ موثوق لا يكفي بالضرورة، وقراءته في صحيفة أو سماعه من مقدِّم أخبار لا يعني بالضرورة أن القائل قد قال الكلام فعلاً، فحتى الموثوقون والصادقون والمذيعون والصحفيون ينسون ويسهون ويخطئون، فكلنا بشر، والغالب أن يضطر صاحب المقولة أن يكرر كلامه الأصلي وينفي المقولة المشوهة التي نُقِلَت عنه، غير أن البعض يتعامل مع ذلك بشكلٍ طريف، منهم هيتشكوك. ألفريد هيتشكوك أحد أبرز وأشهر مخرجي الأفلام في القرن الميلادي الماضي، قال ذات مرة: إن الممثلين كالبقر. قالها تحقيراً لممثلي المسرح بالتحديد الذين يظنون أنهم فوق الأعمال السينمائية، غير أن هذه العبارة انتشرت انتشاراً كبيراً وأغضبت بعض الممثلين على مر السنين والذين لم يعرفوا سياق أو أصل العبارة، ولما كان هيتشكوك يُخرج أحد أفلامه والذي قاد البطولة فيه ممثلان وممثلة أتت الممثلة ذات مرة ببقرتين وعلّقت عليهما اسم الممثلَين الآخرين - سخرية من المُخرج وتقريعاً له على كلمته الشهيرة التي أغضبتها -، فما كان من هيتشكوك إلا أن التفت للممثلة والتي ظنت أنه أوشك على الاعتذار وطلب الغفران وقال: عفواً، لم ينقلوا عني الكلام الصحيح، فما قلتُ إن الممثلين كالبقر، وإنما قلت: يجب أن نعامل الممثلين كالبقر! ويبدو أن المخرج الشهير سئم أخيراً من تبرير نفسه وتصحيح الناس! إذا نُقِل لك كلامٌ مُغضِب أو سيئ عن شخصٍ ما فدائماً تَثَبَّتْ ولا تُصدّق فوراً، وتجاهل الرغبة الشديدة في التصديق حينما يأتي من مكانٍ تثق فيه، فالغائب عذره معه، وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.