الخطب الحماسية في أجزاء من عالمنا العربي لم تحقق الأمنيات، لم تؤسس الجامعات ومراكز الأبحاث، لم تطور البنية التحتية، لم تحل مشكلة المواصلات ووسائل النقل المهترئة، لم تستثمر مواردها، لم تلحق بما تحقق من تطور في مجال التقنية والإدارة.. مهارة الاتصال بالناس ومن وسائلها الخطابة هي بلا شك إحدى المهارات القيادية، يستخدمها القادة السياسيون وغير السياسيين للتأثير والتحفيز نحو تحقيق الأهداف، الخطب الحماسية تكاد تكون من اختصاص السياسيين لكنها أيضاً تستخدم للتحفيز في مجالات كثيرة من أبرزها المجالات العسكرية. عبر التاريخ كان لبعض الخطب السياسية الحماسية تأثيرها القوي في صناعة الأحداث وتحقيق الانتصارات ونيل الحقوق والفوز في الانتخابات وقيام الثورات وتحفيز الناس للدفاع عن أوطانهم، وبعضها كانت لتغطية أهداف خفية كما هي خطابات حزب الله، أو لتغطية الفشل كما هي خطابات زعماء عرب وغير عرب كانت لهم وعود وخطابات ثورية انتهت بكوارث. الخطب الحماسية السياسية ظاهرة عالمية لكنها أصبحت تهمة عربية ربما بسبب الإحباط العربي الناتج عن الفجوة بين ما يقال وما يظهر على أرض الواقع. الوضع العربي الذي حاصرته الأزمات المتتالية كانت سبباً في نشوء الخطاب الحماسي وربما كان هو السبب في تلك الأزمات لأنه خطاب اتسم بالعاطفة والوعود غير الواقعية مع ضعف في العمل الفعلي المؤسسي وحضور قوي للشعارات التي لا تعبر عن رؤية مستقبلية. رغم ذلك كانت تلك الخطب تؤثر في مشاعر الناس وتوجهاتهم وتمنحهم بعض الأمل وتشجعهم على الصبر. الخطاب الحماسي يغلب عليه الطابع الإنشائي واللغة العاطفية، أما الخطاب الهادئ فهو خطاب التنمية الذي يتحدث بلغة الحقائق والأرقام. في التاريخ الحديث ترد شخصيات قيادية لم تشتهر بالخطابة، ومع ذلك حققت أهدافها لأنها قوية بفكرها ولغتها وليس بدرجة الحماس فيها. وشخصيات قيادية اشتهرت بالخطب الصاخبة الحماسية الطويلة لكنها فشلت في تحقيق الأهداف لأنها أصلاً أهداف غير واضحة أو خادعة. في الانتخابات قد يتمكن صاحب الصوت الحماسي القوي من كسب عاطفة الناخبين والفوز في الانتخابات. وحين يبدأ العمل الحقيقي يتقدم العقل على العاطفة ويبدأ بتقييم الأداء والبحث عن الإنجازات والوعود المطروحة في الحملات الانتخابية. في العالم العربي ولعقود من الزمن سيطرت الشعارات السياسية غير الواقعية على الخطاب السياسي. لم تكن التنمية الشاملة هي محور هذا الخطاب فلم تتحقق التنمية ولم تجد الشعارات لها مكاناً على أرض الواقع، شعارات تنادي بالقومية والوحدة والحرية والديموقراطية والموت لأميركا وإسرائيل كانت تحرك عواطف الجماهير وتحرك أكفهم بالتصفيق مع إسقاط كل أسباب الفشل على عدو خارجي. كان لقضية فلسطين نصيبها الأكبر في نضال الشعارات والمتاجرة بالقضية. مسيرة من الخداع وصلت إلى خطاب حماسي من نوع جديد تبناه حزب الله الإيراني الذي زعم أنه حزب المقاومة فتبين أنه الخطاب الحماسي الأكثر ضجيجاً وخداعاً للشعوب العربية والفلسطينية على وجه التحديد. الخطب الحماسية في أجزاء من عالمنا العربي لم تحقق أمنيات المواطن العربي، لم تؤسس الجامعات ومراكز الأبحاث، لم تطور البنية التحتية، لم تحل مشكلة المواصلات ووسائل النقل المهترئة، لم تستثمر مواردها وأهمها العنصر البشري، لم تلحق بما تحقق من تطور في مجال التقنية والإدارة. من يزور بعض الدول العربية وغير العربية في هذا الزمن ويعيد سماع الخطابات الحماسية لقادتها سوف يصاب بالإحباط ويتساءل: متى ينتهي زمن الخطابات ويبدأ زمن العمل الذي ينعكس إيجابياً على حياة الناس. ارتفع مستوى الوعي ولم تعد الخطابات الحماسية المطولة ذات تأثير، أدرك الناس أن الأمنيات لا تتحول إلى واقع بالصراخ وإنما بالعمل. حتى تغريدات تويتر -ومهما كانت قوتها- تصبح تحت مجهر عالمي وتصبح مدعاة للسخرية إذا كانت منفصلة عن الواقع. عصر التقنية والمعلومات والاقتصاد والتنمية البشرية يحتفي بالإنجازات ولغة الحقائق والأرقام وليس بالخطابات والشعارات. الخطابات الحماسية لها أهميتها لكنها تفقد تأثيرها إذا لم ترتبط بعمل ونتائج.