"الولاء" مفهوم مثير للحيرة والارتباك حاول المفكرون والفلاسفة درسه ومنحه بُعده المعرفي والأخلاقي، ومع ذلك مازال مفهوماً مُلتبساً لم يزدد مع الوقت إلا غموضاً واستعصاءً.. ثمّة مفاهيم وقيم وسلوكيات لا يمكن القبض على معانيها أو تحديدها بدقّة، لالتباسها وغموضها، وتعدّد تأويلاتها. من هذه المفاهيم "مفهوم الولاء"، الذي تشير لفظته الجدل بين أوساط المثقفين والباحثين وتثير في الذهن - حتى للفرد العادي - الحيرة والارتباك، كما تثير لدى الدارسين له معاني سياسية وأخلاقية حاول على إثرها المفكرون والفلاسفة وعلماء الاجتماع تحديدها ودرسها ومنحها بُعدها المعرفي والعقلي والأخلاقي، ومع ذلك مازال مفهوماً مُلتبساً لم يزدد مع الوقت إلا غموضاً واستعصاءً على التفسير أو التحديد الدقيق مثله في ذلك مثل مفهوم "الضمير" الذي لا يقلّ غموضاً وارتباكاً. فعلى المستوى الإنساني البسيط لا يعزُبُ عنّا تلك الولاءات البسيطة التي تتمثّل في سلوكياتنا دون تخطيط مُسبَق وبلا قصديّة تسبق أفعالنا وردود فعلنا تجاه الأحداث والوقائع التي تصدفنا في تعاطينا الحياتي البسيط منه والمُعقّد. فلا يمكن أن نُفسّر حالة الجذل والحبور التي تُصاحب سلوك مزارع بسيط قوّس التعب ظهره وهو يهبّ من وسط انشغالاته في حالة انتشاء وفرح كبيرين وهو يتلقّى خبر زيارة مليكه أو ولي عهده لمنطقته، فتلمس عفويّة التفاعل والمشاعر التي لا يتلبّسها مبالغة أو زيف وبكلمات بسيطة غارقة في نقائها وصدقها يردّد عبارات الترحيب والسعادة، وهو أمر ينسحب على الأطفال الذين يُعدّون ملوك العفوية ونقاء الضمير وصفاء الوجدان، وقِس على ذلك بقية أطياف المجتمع بمختلف مواقعهم العلمية والعملية التي تصبُّ جميعها في معنى أخلاقي وإنساني واجتماعي هو "الولاء". لا تفتأ الفلسفة والعلوم الإنسانية مُجادِلة مثل هذه المفاهيم العريضة والملتبسة، وهو دورها حتماً في جوهرتها وإلباسها لبوسها العلمي والمعرفي الدقيق والضابط لمعناه. من الفلاسفة المهمّين الذين اشتبكوا مع هذا المفهوم جوزايا رويس، وهو فيلسوف أميركي معاصر "1855 - 1916" من الهيجليين الجدد في أميركا ومن ممثلي المثالية المطلقة. وقد اعتبر جوزايا الولاء محور الفضائل كلّها، وروح الأخلاق العاقلة، وأنّه إذا تمَّ قيام وحدة صحيحة بين الأخلاق ونظرية فلسفية عن العالم الواقعي، تحقّقت وحدة الدين بالحياة العملية. كما عرّف الولاء بأنّه التفاني الإرادي العملي المستمر، من قِبل فرد ما، تجاه قضية معينة. يعرف منها ما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن يقوم به من الأفعال. ولا بد أن تتّصف هذه القضية بالذاتية والموضوعية، وتضم أكبر عدد من الأفراد في رابطة واحدة، فالولاء ضروري، لأنه يقضي على حالة التردُّد والحيرة الأخلاقية، ويحقق به الفرد الخير لنفسه، لأنه - وفقاً لرويس - يكمن في معرفة الفرد لواجبه، ومثله الأهلى في الحياة، فالفرد لا يستمد خيره من الخارج، ولا يعرف واجبه منه، ودائماً ما يلجأ إلى الداخل، لاستشارة إرادته العاقلة. ومن المفيد الإشارة إلى تأكيد مهم لفت إليه جوزايا رويس في كتابه "فلسفة الولاء" وهو أنه لا تتعارض روح الولاء مع الاستقلال الأخلاقي للفرد كما حاول أن يُصوّر أنصار المذهب الفردي في الأخلاق وأن الولاء سبب الكوارث الإنسانية وغيره من الادعاءات، مؤكداً على أن الإنسان يستطيع أن يعتمد على النور الفطري الداخلي لمعرفة واجبه والشعور بالسكينة مستدلاً على ذلك الدحض لتلك المزاعم بولاء الساموراي الياباني، حيث لا يتعارض شعوره بالولاء مع إحساسه بكرامته وكيانه الخاص، ولا يتعارض ولاؤه مع وحدة الأُمّة، ويرى أن الأخلاق الفردية لا تستقيم إلا بالولاء، فكلُّ غاية فردية، لا يتم الولاء، يفشل الفرد في تحقيقها. إذاً؛ وبعد هذا العرض السريع لمفهوم الولاء، ما حاجتنا له؟ وكيف يمكن تحقيقه وترسيخه لدى الفرد والمجتمع في ظل هذه الظروف التي تتنازع المرء نوازع كثيرة تتعدّد فيها الولاءات وتحتاج إلى ضبط معياري وقيمي يمكن من خلاله أن يؤدّي كلٌّ منّا دوره الوطني وقبلها الديني؟ تبدو أسئلة صعبة وتحتاج مزيداً من القراءة والفعل الثقافي عبر تأصيل مثل هذه القيم النبيلة التي تخدم المجتمعات وتسهم في صونها ووضعها في مكانها اللائق بها إن على المستوى الوجداني أو العملي بحيث يصبح قيمة أخلاقية لها مكانتها التي تليق بها وبمجتمع يروم أن يكون كما أُريد له؛ مجتمع له الموقع الريادي والقيادي للعالم الإسلامي باعتباره قبلتهم الروحية والدينية على مرّ الأزمان.