المعرفة والدراسة والإحاطة والذكاء قد تكون وبالاً على صاحبها إذا لم تصاحبها منظومة أخلاقية، تردع النسق الذهني عن الانفلات في صراع المصالح والنفوذ، دون أن يكون البعد الأخلاقي حاكماً ورادعاً ومحيطاً بتلك المعرفة أو التوجهات، وضابطاً لها، وحابساً لشهوات النفس الأمارة بالسوء.. العلاقة بين سلوك البشر والنسق الذهني لا تحتاج إلى تأكيد. حتى ليمكن القول إن كل اضطراب وتشوه وعشوائية في النسق الذهني، سيترتب عليها تحديد غالب المصير والمآل الذي يطول البشر. والمقصود بالنسق الذهني هنا، ذاك الذي يجعل للعقل أو الذهن القدرة على الوصول إلى إجابات منطقية منضبطة، وتصورات قائمة على نهج علمي رصين، فهي ليست عشوائية، وليست رهينة برمجة اجتماعية مسبقة وضاغطة، وقليلا ما تفحص مفاهيمها أو تناقش بحرية. أما النسق الأخلاقي، فهو الشق الآخر الذي لا ينفصل عن صناعة وتحديد سلوك البشر ومصائرهم في الحياة. فما العلاقة بين النسق الذهني والأخلاقي؟ ومن الذي يتحكم في الآخر؟ وماذا عن الإنسان في حالة انفصالهما؟ النسق الذهني المنطقي المبني على المقدمات والنتائج والإحاطة بالواقع والبحث في فرصه وقوته وضعفه، وما يستطيع الفرد الإعداد له في مواجهة التغييرات السريعة والحاسمة في الحياة، والنسق الأخلاقي الذي تغذيه ثقافة يستقي منها الفرد دليله في فحص القضايا من حوله، والتمييز بين الأخلاقي وغير الأخلاقي، والإنساني وغير الإنساني، والخيّر والشرير، والحق والباطل، والعدل والظلم.. وغيرها من الثنائيات التي تتميز بها الحياة. تفاعل هذين النسقين يحدد السمات الأبرز في كينونة الإنسان وخياراته وتوجهاته. العشوائية في حياة الإنسان، هي أحد مؤشرات التيه عن عالم النسق الذهني الرشيد. الركون إلى الأمنيات وأحلام اليقظة مؤشر على غياب النسق الذهني المنطقي المبني على الوقائع لا الأحلام، والاتكاء الخامل على ما تأتي به الأقدار دون محاولة صنع الأسباب التي تحمل الأقدار، ليس إلا إرجاء وعزوفا عن مواجهة الحياة بالوسائل الممكنة والمتاحة، والقدرة على فهم لعبتها عبر تمييز الممكن من غير الممكن.. والفاعل من المعطل.. والنافع من الضار.. والمجدي من غير المجدي. سيطرة الأهواء ونزعات النفس الأمارة بالسوء في الحكم على مجريات الأحداث بلا منهج تفكير منضبط بما يتضمن معاودة البحث والاكتشاف.. وغياب عرض كل ذلك على نسق معرفي ذهني منضبط وأخلاقي.. لن يكون سوى مؤشر على حالة تيه وضياع. والنسق الذهني مرتبط بالمنطق والاحتياجات ووسائل تلبيتها ومواجهة التحديات بعقل يقظ قائم على حسابات الربح والخسارة والعمل والنتيجة، وبحث نقاط الضعف والقوة، وليس مجرد توقف عن الفعل أو الانهماك العشوائي تحت تأثير الوهم أيا كان نوعه ومبعثه. إنما يبقى النسق الأخلاقي، المعول عليه في ترشيد القول والعمل، بل إن النسق الأخلاقي مهيمن حتى على النسق الذهني، أو هذا ما يجب أن يكون. فإذا كان النسق الذهني مرتبطا بالمصلحة والفعالية والجدوى، فإن النسق الأخلاقي مرتبط بالعدل والحق والخير ومقاومة الأهواء التي يترتب عليها الإضرار بالآخرين، والسيطرة على نزعات الحقد والكراهية وما يستتبعها من ممارسات مؤذية. لا يمكن بناء عقل ناضج أمين، مدرك لأبعاد المخاطر، ومقبل على التحديات بروحية الاستجابة والفعالية دون نسق أخلاقي متين. إذا نزع النسق الأخلاقي عن النسق الذهني والمعرفي فسنكون أمام معايير المصالح والنزعات الفردية الطاغية للاستئثار دون وازع من ضمير وربما العدوان أيضا. وما الضمير إلا تعبير على النزعة الأخلاقية التي تتداخل في بنائها التربية السليمة القائمة على معايير الحق والعدل ورفض الظلم وكل أشكال البغي والعدوان. والتربية الدينية في جوهرها تربية أخلاقية، فهي تحيط بعقل المتلقي لتصنع حزاما يُدرِّع النسق الذهني، فلا يتخطى ذلك النسق دون عرضه على معايير الأخلاق التي هي محور دعوة الأديان خاصة الدين الإسلامي، الذي جعل بناء الأخلاق الرفيعة معيارا لحقيقة الإيمان وقوة المعتقد وسلامة المنهج والقصد في السلوك والعمل. النسق الذهني الذكي والمتحوط والقارئ الجيد في الفرص والتحديات لا يمكن أن يكون خيرا دون نسق أخلاقي أو منظومة أخلاقية دقيقة تجعل كل خطوة تعرض على تلك المنظومة لتجيزها أو ترفضها. المعرفة والدراسة والإحاطة والذكاء قد تكون وبالاً على صاحبها إذا لم تصاحبها منظومة أخلاقية تردع النسق الذهني من الانفلات في صراع المصالح والنفوذ، دون أن يكون البعد الأخلاقي حاكماً ورادعاً ومحيطاً بتلك المعرفة أو التوجهات، وضابطاً لها، وحابساً لشهوات النفس الأمارة بالسوء.. ليحد من الوقوع في الأهواء والمغريات، التي لا تخلو غالبا من ظلم وعدوان.. وما أكثرها اليوم وما أبعد تأثيراتها. يمكن بناء النسق الذهني من خلال التعليم والتجربة، مع ضرورة توافر مقومات ذكاء مناسبة واستعداد شخصي ملائم، لكن لا يمكن بناء نسق أخلاقي دون جهد تربوي خاص منذ المراحل الأولى من العمر، ليصبح الوازع الأخلاقي حاضرا، والضمير اليقظ متوهجا، والشعور بأن أي إنجاح مصادم للمنظومة الأخلاقية إنما هو فشل كبير. Your browser does not support the video tag.