طالما كان السؤال: لِمَ تبدو بعض المجتمعات سهلة الانقياد، سريعة التحيز، سريعة الاحكام والاصطفاف..؟ وما هي العوامل والمؤثرات التي تصنع العقل الجمعي، الذي هو حصيلة مشتركات العقل الفردي العام الذي يحظى بدرجة عالية من التشابه.. حتى ليبدو الصوت الآخر نشازا.. يتراجع تأثيره، ناهيك عن قدرته على البقاء في عالم الصوت المتشابه والقراءة المتشابهة والتوجهات المتشابهة.. مشروع العقل النقدي، أكبر من وقفه على جانب وإهمال جوانب أخرى. إنه مشروع يطال إعادة بناء الوعي العام على نحو يجعله مؤهلاً للمشاركة في بناء المجتمع على نحو أكثر إنسانية وجدوى واحتراماً للذات وإنصافاً للآخر وانحيازاً للمستقبل بأدوات العقل الواعي لا العقل المعطل.. هناك سمات لا يمكن تجاوزها في عقل المجتمع، مهما كان هناك من ملامح لتعددية الأفكار أو الرؤى أو القراءات.. فلا زالت النسبة العظمى من المجتمع تعيش ضمن إطار وحيز التلقي.. مما أسهم في بناء عقل نقلي مكتمل الأركان... بينما يبقى مجال العقل النقدي متوارياً أو مجالاً خاصاً، وقد يبدو غريباً في التكوين الاجتماعي الثقافي السائد، بل وأحيانا منبوذا ومشكوكا فيه ومثيرا للريبة والقلق. وليس من التبسيط مغادرة القضايا الفكرية الكبرى، وصولا لاختيارات الفرد كجزء من مجتمع التلقي. اسمعوا لكثير ممن يدعي ظلما وقع عليه من طرف ما. ستجدون أن حجم الشكوى مرة وحجم التأثر كبير.. ولكن مستوى قراءة الحدث أو الواقعة لا تبرح فكرة المظلومية للذات، التي قد تتوراى خلف حجيتها وكثير من شكواها ظلما آخر يتم تجاهله وقع على الطرف الآخر أيضا.. ولن يكون مصدر هذا التجاهل والتحيز سوى النسق الذهني الذي يدفع به العقل الباطن لواجهة العقل الواعي.. حتى لتبدو أي قراءة منصفة نوعا من الانحياز والتخلي!! إذا كان هذا شأن الفرد، في قضاياه اليومية، وهو جزء من المجتمع، فهل يمكن التغاضي عن ذهنية اجتماعية تشكلت أنساقها على أفكار محسومة أو قراءات نهائية أو توجهات مسبقة لا تدع فسحة للعقل النقدي لمزيد من البحث ناهيك عن القبول أو التأثير. والإنصاف ابتداء، ليس سوى مسألة أخلاقية لكن الوصول إلى ضفافها لن يكون دون محاكمة أمينة للأفكار والوقائع والأحداث. هناك عاملان مهمان في بناء المحاكمة الأمينة للوقائع وصولاً إلى حدود الإنصاف، أولهما تربية أخلاقية عمادها تعظيم وتقدير قيمة الإنصاف والعدل، وهذا يتطلب إقصاء كثير من العواطف والانحياز والاصطفاف تحت أي مؤثرات كانت أو تحت أي ظروف تشكلت. الأمر الآخر، أن العدل قيمة أساسية تقوم عليها الحياة، وإذا لم يكن الانحياز للحق ومواجهة الظلم، وتحري الإنصاف.. مبدأ مستقرا في الذهنية العامة.. فعلينا ان نعيش كثيرا من المآسي تحت وحل الانحياز للمصلحة الخاصة او العشيرة او الجماعة او الفكرة.. حتى لو تعارضت مع المبدأ الأخلاقي الذي يتغنى به كثيرون. بين نزعتين، النزعة الأخلاقية، والنزعة الاجتماعية الثقافية الضاغطة.. تتبدى علاقة الفرد والمجتمع بمكوناته ونظرته لقضاياه وحدود ممكناته ومحاولته الخروج من تبعات تلك التركة الثقيلة.. إلى مستوى تأسيس قيم أخلاقية وعقلية تكون منطلقاً لإدارة الصراع في الحياة على نحو يتمثل القيم الأخلاقية الكبرى، التي تبعث الروح في حياة المجتمعات على نحو يقوي قدراتها ولا يراكم عوامل ضعفها وانشقاقها وجنوحها. ولن يكون التعصب، لمبدأ أو فكرة أو رأي أو جماعة أو مصلحة، سوى جزء من الخلل والعطب الذي يصيب العقل الجمعي المستسلم للتأثيرات التي شكلت بيئة التلقي والعلاقات والتكوينات الاجتماعية المغلقة على مفاهيم وقيم ثقافية قد يبدو من الصعوبة تجاوزها إو إعادة النظر في مكوناتها وغربلتها وقراءاتها على نحو آخر. التعصب سمة فاضحة في العقل الجمعي المستسلم لثقافة التلقي دون فحص، والمندمج دون وعي في منظومة اجتماعية ثقافية ظلت أسيرة للعادة والصوت العالي والنفوذ القوي وعلاقات الجماعة والمصلحة.. حتى ان الخروج عن مسارها يعد جنوحا وتجاوزا.. بينما يعظمها المتلزم بها، مهما كان إخفاقها واضحا او عجزها عن معالجة ذاتها والخروج من نفق أزماتها. التعصب لقبيلة أو طائفة أو جماعة أو فكرة.. لا يمكن أن يظهر ويقوى سوى في ظل عقل جمعي يتوارث بالنقل مفاهيم وقيماً يعيش في ظلها، وهو يزيح عن وجهة كل محاولة لبناء منظومة ذهنية تعيد النظر فيها وتبحث في آفاقها وتعزل غثها عن سمينها.. التعصب سمة العقل المغلق والخائف من التحولات والتطورات. وكذلك هو سمة للعقل الراكد والمنصرف لاستعادة مخزون ذهني منشأه ثقافة التلقين والنقل، دون ان يتبصر ان هناك سمة للعقل تتجاوز النقل إلى النقد. وأن كل التطورات الكبرى التي شهدتها البشرية لم يكن لها أن تتحقق سوى من خلال عقل نقدي يعيد قراءة المشهد على نحو مختلف، ويتبصر في مآلاته، ويوظف مكنون قوته في دعم بناء تصورات أكثر موثوقية وجدوى وصوابية. العقل النقلي يتميز بالعديد من الصفات، منها تمرير الأفكار دون مناقشة، وإعادة إنتاجها عبر التكرار دون توقف او إعادة نظر، وأحيانا يدافع عنها باستماتة.. حتى لو كلفه الكثير من جهده وقواه.. بل وما هو أبعد. أما العقل النقدي، فهو لا يتخلى عن العقل باعتباره يحمل وظيفة مزدوجة تقوم على فحص الموقف ومساءلة الفكرة، وتأمل أبعادها وحدودها ومآلاتها واستشراف مستقبلها، مما يجعل العقل أداة فعالة للاستيعاب والانفتاح على الثقافات الأخرى، وقراءة مضامينها وتأمل أبعادها دون ان يعني هذا الانهماك فيها او تعظيمها او الاحتباس في أفقها بلا وعي.. وإلا أصبح عقلا نقليا بامتياز.. كما أن كثيرا ممن يدعو للانفتاح على الثقافات الأخرى، وهو مملوء بفكرة مسبقة بأنها الأصلح والأرقى والأفضل.. تحت دعاوى الارتحال من ثقافة التلقين إلى ثقافة النقد والانفتاح على العالم، قد لا يدرك انه أيضا قد يصبح مع الوقت ليس اكثر من متلق ومروج ينقل ولا يفحص ومبشر تتهاوى بضاعته عند ساعة المساءلة والفحص!! العقل النقدي، ليس وظيفته الإدانة أو التحيز المسبق لفكرة يحاول ان يجمع ما يدعمها ويقوى من دفاعاتها.. إنه عقل يتميز بالوعي إلى درجة ان يكتشف الصائب في ثقافته وعوامل القوة فيها.. كما لا يتردد ان يعترف بما لدى الآخر من عناصر القوة والتفوق.. وهو يحسن توظيف القيم والمعاني الكبرى الفاعلة في مخزونة الثقافي لمعالجة الخلل في مجتمعه.. ليس من الإنصاف أن نضيق بالمنبهرين بما لدى الآخر - الغرب - من تفوق وتقدم حضاري ومادي.. فالعقل النقدي الواعي ينبهر بكل ملامح الحياة التي تتقدم في ملامح الترقي ماديا ومعنويا وحضاريا.. إنما ايضا التوقف عند هذا الانبهار دون الاعتراف بأن ثمة عوامل تدفع لهذا التقدم وقراءتها بصدق وإخلاص.. ومن بينها تعظيم أداة العقل النقدي بالإضافة إلى الالتزام الأخلاقي بقيم العدل والإنصاف وحق الإنسان بالحياة واحترام كينونته والحذر من إقصائه او الاستعداء عليه او الانهماك في جانب، لا ملامح له سوى إدانه الذات باسم العقل.. أو أن يتم توظيف العقل النقدي في قضايا.. بينما يخبو هذا العقل ويتثاءب وينام عن قضايا أكثر أهمية وتأثيراً. مشروع العقل النقدي، أكبر من وقفه على جانب وإهمال جوانب أخرى. إنه مشروع يطال إعادة بناء الوعي العام على نحو يجعله مؤهلاً للمشاركة في بناء المجتمع على نحو أكثر إنسانية وجدوى واحتراماً للذات وإنصافا للآخر وانحيازاً للمستقبل بأدوات العقل الواعي لا العقل المعطل أو المتوقف عند حدود (الآبائية) التي ذمها القرآن الكريم، باعتبارها تعطيلاً للعقل عن مواجهة الحقائق والارتهان لتصورات السابقين.. بينما الحياة نهر يتدفق لا يتوقف ولا يستأذن. [email protected]