هو النور الذي يشعُ في عقولنا لتتضح لنا صور الأشياء وحقيقتها الخفية، يعرفه جيدًا المنجزون، ويغيب عن المنغمسين في سطحية الأشياء، وتوافهها. إنَّه الوعي الذي يُهْدِيه الله لمن بذل أسباب العلم، وعكف على أوراقه (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تذْكِرَةً وَتَعِيهَآ أُذُنٌ واعِيَةٌ)، الوعي مرحلة متقدمة من الإدراك عَرَفه العلماء حينما أوغلوا في أعماق العقل، ورصدوا سلوكات الإنسان، ومظاهر تفوقه. والوعي كما عرَّفه معجم (لاروس) هو: "إدراكنا تختلف درجة وضوحه، ومن شأنه تعريفنا بذاتنا»، ونلمح هذا في مقولة سقراط الشهيرة: «اعرف نفسك بنفسك»، ومعرفة النفس أساس الوعي، التي ينطلق بعدها الإنسان لمعرفة ما حوله معرفة حقيقية. ويعيش كثيرٌ من الناس في دائرة المعرفة دون الوعي، وشتان ما بين المعرفة، والوعي! فالمعرفة هي الفهم النظري للأشياء؛ فالعارف دون الواعي يأخذ المعلومات، والأفكار، والقيم كما هي، ولا يُجرد عقله في الغالب من التصورات السابقة؛ فينطلق منها تاركًا عقله بعيدًا عن التجربة، أما الواعي فتتشكل لديه المعلومات، ويبدأ في الغوص في أعماقها، ومعرفة ما وراءها، والمعرفة التي تأتي ذاتية وعن قناعة بدهيًا تنتقل إلى تطبيق، وهذا ما يُميز الوعي عن المعرفة، ولذلك لو قارنا بين طالبين في فصل واحد وعلى مستوى واحد من القدرات، نجد أن كليهما يعرف أن النجاح بتفوق نتيجة إيجابية، لكن الواعي يُحيط بمُحصلة النجاح كلها، ويعلم أن هذه النتيجة وراءها مُخرجات عدة، تُؤدي إلى تراكم العلم الذي يُؤجر عليه، ويبني شخصيته، ويجعلها ناجحةً، ومُقَدَرةً في مجتمعها لها إنجازاتها العلمية والعملية. والوعي يُعزز قيمة ذاتك، ولا ترى أن هناك من هو أفضل منك إلا ببذل الجهد، وليس بصور المجتمع الخادعة. وإذا انخفض مستوى الوعي أصبح الإنسان أقل تحكمًا في ذاته، مُجرد ردة فعل لمن حوله، وأداة يوظفها الآخرون لمصالحهم. والانتقال من مرحلة المعرفة إلى مرحلة الوعي يتطلب جهدًا ذاتيًا يقوم به الفرد حتى يتجاوز الصور الذهنية التي تُحيط به، وينطلق إلى فضاء رحب يتأسس أولًا بالقراءة، ويعتمد على الاطلاع، والتجربة، والانطباع الذاتي، والإبحار فيما وراء المعلومة بسلاح الأسئلة، والتحليل، والاستنباط، والتأمل، وقد يحصل الوعي من خلال (الصدمة المعرفية)، كمن ينتقل إلى بيئات جديدة أكثر علمًا ومعرفة. وبالوعي لا يخدعك العقل الجمعي، أو ما يُزيفه الإعلام كما يحصل في دعايات التسويق، التي يقوم عليها خبراء في هذا المجال، يُوهمون الناس بارتفاع قيم بعض المستهلكات لتسويقها. إن قلة الوعي لدى المجتمعات تسهم في تخلفها؛ فتعيش قابعة في دائرة الجهل تُسيطر عليها القوى الأكثر منها وعيًا. وليس للمجتمعات سبيل عن الوعي حتى تنهض بنفسها، وتعتمد على قواها الداخلية، وهذا يحتاج إلى تغيير ثقافتها في قبول المعلومة، والتعامل معها بشكل واعٍ، وغير تقليدي. إن الوعي كفيل بتوجيه بوصلة المجتمع من السير خلف النمطية إلى السير خلف عقل حر يعتمد على العلم، والتجربة الذاتية لا على عقول الآباء، والأجداد بل قالوا (إنّا وجدنا آباءَنا على أمةٍ وإنّا على آثارهم مُهتدون). Your browser does not support the video tag.