أجمع أدباء أن للقراءة أهمية بالغة في حياة الإنسان خاصة المثقف منهم، ولكل شخص منهم طريقة في القراءة، فيما وجهوا نصائحهم للراغبين في القراءة من جهة، ومن لا يقرأون أساساً، حتى تكون لديهم الرغبة في قراءة كل كتاب يرون أنه مفيد لهم، وينمون قدراتهم عبر القراءة المفيدة. ويعتبر كثيرون القراءة هوايةً يقضون بها أوقات فراغهم، شأنها في ذلك شأن الهوايات التي تنمي عقل الإنسان وتصقل شخصيته، بينما تعد القراءة ضرورةً من ضرورات العصر لأن غير القارئ لا يعد أمياً على صعيد الكتابة والقراءة فحسب، على صعيد أنه غير واسع الأفق، ولا يستطيع أحدٌ نقاشه لمجرد أنه غير مثقفٍ ولا مطلعٍ على الأحداث أو المعلومات من حوله. الشغف المعرفي أكد الشاعر حسن الربيح أن القراءة تبدأ حين يتحرّك حلمٌ أو سؤالٌ في داخلي، فالقراءة لديَّ كالقصيدة لا أندفع إليها إلا أن أكونَ مفعمًا بأحاسيس ممزوجة بالهروب والخلاص من حصار الوقت والمكان. تبدأ القراءة، وإذا سلكتُ الطريق لا أعرف متى أتوقف؟ فقد أنهي كتابين أو ثلاثة وأكثر، وأشعر أني سأنهي مكتبة كاملة، وأنا أعيش حالة الشغف المعرفي. وأضاف الربيح أنَّ الذين يمارسون القراءة يتبلور في أذهانهم مفهوم عن القراءة، وعلى ضوئه يتحركون ويختارون وينقدون وينمون من كتاب إلى آخر، لأنَّ القراءة ليست وظيفة تؤدي مهمَّة وتنتهي، بل هي التي تصنع الوظيفة للقارئ، وبمعنى آخر تجعل القارئ يكتشف ذاته، ويتلمَّس طريقه دون الحاجة إلى عصا أو دليل، وبذلك يصل المرء إلى متعة الاكتشاف الحقيقي، ويقف وجهاً لوجه بلا معين وبلا أسلحة أمام الفكرة المجردة والحقيقة المرعبة ليخوض هذا الغمار المتلاطم، فيعيد صياغة الوحشة من جديد، ويتبدَّل مفهوم الألفة لديه. تتدخَّل القراءة في تكوينك كما يتدخَّل الحليب في تكوين الرضيع، إلا أنَّه لا فطام في القراءة، فكتب تقرأ لمرة واحدة، وبعضها تصبح نديمًا لا يفارقك، من هنا تشتدُّ قواك كلما كانت علاقتك بالكتاب مثل علاقة التربة بالماء. وأشار الربيح إلى أن القراءة مفهوم ضارب في العمق لو تأمَّلنا، فالشُّعوب التي نسافر إليها، ولا نشعر معها بضيق في فكرة، أو حرج في سؤال، أو انفعال في رأي، شعوب قارئة بامتياز، شعوب آمنت بالقراءة حتى أصبحت ضمن حاجتها اليوميّة التي يغيّرون من خلالها هواء غرفهم الداخلية، ويطردون غبار ماضٍ لم يصنعوه، ويطيرون معها إلى حيث متعة الاكتشاف والبحث والسؤال. فالقراءة لا تكون بالوصاية، بل هي اندفاع ظامئ من أجل الوصول إلى النَّبع ذلك الذي يحتاج إلى عناء، ومكابدة ذاتية. وتكمن في كل تفصيل من تفاصيل الحياة. الهوية المتحولة وأوضح محمد بن سعيد الفرحان قائلاً: قبل أربع سنوات غردت بتغريدة: «مكتبتي: هويتي المتحولة عبر الزمن»، ما زلت إلى الآن أرى ذلك، فالمكتبة والكتب ترتبط بشكل عميق بالهوية الذاتية، إنها البصمة التي لا يتشابه فيها اثنان، ومع اتساع المكتبة وتنوعها وثراء القراءة وتجددها، كذلك تتحول هويتي وتولد ذاتي مرة تلو الأخرى، والقراءة بالنسبة لي ترتبط بالحياة أيضاً برباط جدلي، فالقراءة تبدأ بالحياة وتنتهي بالكتاب، ومن جهة أخرى تبدأ القراءة بالكتاب وتنتهي بالحياة. فالعالم والحياة كما يقول المتصوفون هو «كتاب تكويني»، ويتقابل مع الكتاب، القرآن تحديدًا، حيث يسمى «العالم التدويني»، فالقراءة بلا حياة كروح بلا جسد، لا تستطيع أن تؤثّر وتفعل شيئاً، والحياة بلا قراءة كجسد بلا روح، أي جثة هامدة، لا يسري المعنى في أوردتها، فالناس القارئون أقدر على إسباغ المعنى على تفاصيل حياتهم وإثرائها، وجعل تجاربهم أكثر حيوية وعمقًا، فالقراءة تجعل الإنسان يعيش حياةً أخرى في الحياة، أي حياةً مضاعفة، وتغلغل القراءة في حياتي أدى إلى أمرين في علاقتي مع القراءة: أولاً: أصبحت القراءة أمرًا عاديًا جدًا، أمرًا غير مميز ومختلف من شدة قربي منه وألفتي معه، لذلك لا تترافق قراءتي مع الطقوس، فالطقس لا يحدث إلا لشيء مميز، فلا أشرب القهوة ممسكًا الكتاب، ولا أبحث عن مكان هادئ بعيدًا عن العالم لأقرأ فيه، فقراءتي عفوية جدًا، أشبه بتناول الطعام، هنالك وجبات رئيسية تحتاج شيئاً من التهيؤ، لكن هنالك طعاماً خفيفاً «سناك» يمكن أكله في أي وقت وأي مكان. ومثل الطعام الذي تتلهف له أذواقنا في أغلب الأوقات ونستهلكه كل يوم وتمر علينا أوقات نتخفف منه ولا نأخذ منه إلا الكفاف، كذلك القراءة فهنالك لحظات كفاف واستراحة منها، نبتعد عنها حتى نشتاق لها. ثانياً: أصبحت القراءة أوسع من الكتاب، فهنالك المحاضرة والكتاب الصوتي، وهنالك الجلوس مع أصحاب التجارب والاستفادة منهم، وهنالك التأمل في الأشياء والأحداث، والقراءة بالمعنى الأخير هي أن تقرأ كتاب الكون، أن تنفتح ذاتك على الأشياء، وذاتك لا أعني بها فقط عقلك الذي يفهم، بل قلبك الذي يشعر وروحك التي تتأمل وجسدك الذي يختبر العالم بحواسه الخمس. فسحة بلا حدود وأشار عادل الهاشم بقوله: لا أزال أتذكر كم كنت حزيناً بإغلاق المكتبة الصغيرة في قريتنا منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً، كم كانت الذكريات مع الأوراق غنية إذا كنت أدخر الثلاثة ريالات لأقتني مجلة شهيرة للأطفال بعفوية ودون تخطيط فقط للمتعة والسباحة حتى الغرق المنعش والعطر في قصص وحكايا ومواضيع، واستمرت المراحل التالية في سن المراهقة بالمزيد من توفير المصروف لشراء الكتب حتى بلغت ذروتها سنين الجامعة إذ أنفقت ما يقارب نصف المكافأة على تلك الأوراق المجلدة، تلك الكتب كانت تذاكر للسفر عبر الزمان والمكان إلا أنني كنت كثير الشعور بالذنب لعدم إكمال قراءة معظمها، نعم بدايتها مفيدة ومألوفة والكثير منها ممل لا يشدك إلى الاتمام بل يستهويك كتاب آخر، بعد سنوات حضرت دورة متخصصة في القراءة غيرت نظرتي وعالجت الشعور العميق بالذنب، نعم فالقراءة تستحق حضور دورات وورش عمل وحتى لو قضيت سنوات في تعلمها فهي قدما الأمة في رقيها الإنساني وعندما نقر بأننا ينقصنا الكثير لتعلم القراءة عندنا سنقرأ أكثر ونتسامى أكثر وسنتوقف عن الانشغال بالجمود وننطلق في فسحة بلا حدود. وأوضح الهاشم قائلاً: عليك أن تدرك أن 20 ٪ من الكتب فقط تستحق القراءة حتى نهايتها فلا تتردد بالتوقف قبل إضاعة وقتك وركّز على كتاب يستحق من البداية، فمعظم الكتب الرديئة بها خللان مزعجان هما الإنشائية وسوء الربط فالكاتب الذي يجمع الحقائق ليبني عليها منظومته فيما وراء الحروف تجد لديه ثراء يتضح منذ الصفحات الأولى للكتاب، ومعرفتك بالكتاب الردىء توازي أهمية معرفة الكتاب الجيد فالكتاب الجيد في حقيقته هو إجابة على ثلاثة إلى خمسة أسئلة جيدة تجدها في طيات الصفحات متخفية دون صياغة لغوية فإذا أردت الحكم على جدارة كتاب ما بالقراءة فتصفح آخر الكتاب قبل بدايته لتنظر فيما يضيف الكاتب من ربط وتفسير بين الحقائق فقوة الكاتب تظهر نهاية الكتاب أما بدايته فهي توليف بين ما هو معروف وتثبيت للمشتركات لا أكثر. وحقيقة حجم النسخ واللصق في الكتب كبير جداً إن لم يكن في الألفاظ فهو في المحتوى فلا تنزعج واجعل بحثك عن الكتاب كالباحث عن اللؤلؤ لا تجده في كثير من الأصداف بل في قليل منها، وصحيح أن المثل يقول انظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال.. ولكن حكمك على المؤلف صاحب المصداقية والثقة يسهل عليك متابعته وبالتأكيد انظر إلى معالجته للحقائق والربط بينها فهو مفتاح المعرفة واجعل كل كتاب يقدم لك إجابات رائعة يطرح في ذهنك أسئلة أكثر روعة فالمعرفة هي حالة تنامي في الوعي بيننا كاتب جيد وقارئ جيد. وأضاف الهاشم: كنت أمضي شهوراً أو سنوات في قراءة المواضيع أيضاً فأهتم بالمقالات التي تتعلق بموضوع الساعة لدي كما أهتم بالكتب، صحيح أن ذلك جعلني أكتشف ركاكة في كثير من الكتابات لأنني أقارنها بآخرين، ولكن تذكر أن العبرة ليست بعدد الأوراق فقد يكون مقال قصير أثمن من مجلدات بقدر ما يعالج من أسئلة ويستفز منها لديك. لخص أو شارك أصدقائك ما قرأت خصوصاً ما ترك بصمة عليك وتحدث بلغة بسيطة مفهومة دون إخلال بالمعنى وتذكر أن تنقل الرأي بأمانة وتبين رأيك من تأييد أو إضافة أو اعتراض فلا قيمة لكتاب لا يثير جدلاً أو يكشف خللاً. طقوس القراءة ويقول الكاتب محمد المبارك: تشعبت القراءة اليوم في كيفيتها وطريقتها وأنواعها لكن قبل أن أبدأ في خوض ذلك لابد أن أطرق باب أهميتها وأهمية الكتاب فهو السبيل إليها فقد قال شيشرون: (بيت بلا كتاب جسد بلا روح)، وقال ابن المقفع: (كل مصحوب ذو هفوات إلا الكتاب مأمون العثرات). ولهذه الأهمية أنبرى ذوو العقول واندفعوا نحو القراءة لأنها غذاء العقل والروح ولهذه الأهمية أيضاً تعددت القراءة وأنواعها وكل يقرأ على الطريقة التي تناسبه فهناك الطريقة الانطباعية وهناك القراءة السريعة وهناك القراءة التصويرية وغيرها، وكما يقال: إن الأخيرة عُرف بها الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي وغيره مما لا يتسع المجال لذكرهم. وكما أن هناك أنواعاً للقراءة هناك طقوس معينة عند بعض الأدباء يمارسونها خلال كتابتهم أو قراءتهم وقد أفردت في إحدى مقالاتي عنواناً سميته: (طقوس الكتابة) لبعض الكتّاب والأدباء كيف كانوا يقرؤون ويكتبون وهنا أذكر بعضهم باختصار، فالروائي المصري نجيب محفوظ كان من طقوسه المشي وشرب القهوة والتدخين بشراهة. أما الروائية الإنجليزية أجاثا كريستي فتقول: إن زوجها شيّد لها غرفة تخلو بنفسها للقراءة والكتابة وحيدة دون ضيوف أو هاتف أو رسائل. أما القاصة والروائية الكويتية خولة القزويني تقول كان لأبيها مكتبة عامرة بأصناف الكتب فانطلقت منها للقراءة فقرأت للكتّاب الكبار من أمثال يوسف إدريس ويوسف السباعي وطه حسين وغيرهم. وأبان المبارك عن تجربته قائلا: تجربتي الشخصية مع القراءة فقد استهوتني القراءة منذ أكثر من سبعة وعشرين عاماً عن طريق أحد الأقارب حيث كانت لديه مكتبة جيدة وكان كثيراً ما يتردد على مكتبات المنطقة، وكنت بصحبته مما دعاني لأن أكون قارئاً وتكونت لديه مكتبة لا بأس بها أمارس فيها القراءة بشكل يومي في جو هادئ احتسي خلالها الشاي ولا تمت لي القهوة بصلة ولا اقترب من التدخين وغالباً ما تكون القراءة داخل مكتبتي الخاصة أو في الهواء الطلق في الصباح الباكر فإن لم يكن فبعد الظهيرة، وهكذا ننعم بالقراءة وسنستمر عليها لأنها كما قلنا ونقول دائماً: إنها غذاء للعقل والروح فلا نفرط فيها أبداً. الربيح: ضرورة من ضرورات العصر الفرحان: المكتبة ترتبط بالهوية الذاتية للفرد الهاشم: 20 % من الكتب تستحق القراءة المبارك: بيت بلا كتاب جسد بلا روح Your browser does not support the video tag.