كلّما أفلحَ عالم الشكل في إقناعنا كم هو جديد ومغرٍ، كلّما انتصرت هشاشته في النهاية، وصيّرت تلكم الجدّة والإغراء أثراً بعد عين. وفي كلّ مرّة نحرز فيها قصب الفوز في معركة من معارك الحياة الصغيرة، ينتهي الأمر - عاجلاً أم آجلاً - إلى أنّ المعركة كانت تافهة، وأنّنا - وحدنا - الذين نجرجر أذيال الخسران. وأيّاً كان رونق الحياة التي ارتضيناها لأنفسنا، سنتبيّن - في العَرَصات يومذاك - أنّ الرونق أوهن من أن يفضي بنا إلى النجاة. ولكنّ الإنجاز الحقيقي يكمن في أن نظفر بحياة سنرضى عنها عند موتنا، ونفتخر بحملها معنا، يوم تبيَضّ أو تسوَدّ الوجوه. وفي الثالث عشر من شهر الصوم الراهن، غادر هذا العالم، الملياردير الأسترالي المسلم علي بنّات، وهو في بحر السادسة والثلاثين، بعد أن فتك به الداء الذي لا يسمّى. ورغم أنّه امتلك حفنة من الشركات، وتذوّق من الحياة أشهاها خلال عمره الباذخ، إلّا أنّه لا يمكن لعيد أن يستمرّ إلى الأبد، وفقاً لميلان كونديرا. لقد جرى رصد المرض في أحشاء علي في غضون العام 2015. وقتها أفشى له الأطبّاء أنّ سبعة أشهر وحسب، هي كلّ ما تبقّى له على هذه الأرض، بيد أنّ القدير وبرحمته المعتادة مدّدها لثلاث سنين إضافيّة. ومنذ أن داهمه نبأ الداء، مثل مقذوفة، انقلبت حياته رأساً على عقب، واستفاق إلى أنّ الإنسان لن يلازمه إلى العالم الآخر من قطمير، وما هو بملاقٍ سوى ما يداه أوكتا، فقرّر أنّه ساعة يرتحل، لن يغادر وراءه شروى نقير. وكرّس سنواته الأخيرة، للتحضير إلى اللقاء المهيب مع الله. تحديداً، قام ببيع شركاته، وطار بممتلكاته أجمعين إلى توغو الأفريقية، وجاد بها على السكّان، وكانت السيّارة فيراري خاصّته، والتي بمليونين وربع المليون، جنباً إلى جنب عربات أخرى فاخرة، في عِداد أعطياته هناك. وحينما سُئل عن الذين يشرئبّون لقيادة هكذا سيّارة، أدلى بأنّهم يطاردون الأهداف الخطأ، وسيدركون ذلك عندما يخبرهم مختصّ ما، أنّهم نهبة العلّة، ولن يتأخر رحيلهم طويلاً. حالذاك، سيتعلّمون أنّ السيارة لا تسدّ مسدّ الفرحة التي لمحسن، يرى طفلاً أفريقيّاً معدماً، وهو يبتسم، لأنّه أهداه فردة خفّ. إلى ذلك، دشّن منظّمة، أخذت على عاتقها تشييد بيوت الله، ومدارس للأطفال المحلّيين، وسائر صنوف الخير. وأطلق عليها (المسلمون حول العالم). وأوقف لها 3 مليارات ريال، وأهاب بمحبّيه أن لا تُكبَح عجلة هذه المنظّمة البتّة. وفي شريط ذائع على يوتيوب، صوّره قبيل ميتته، وأمر بإخفائه إلى أن يغيب، ثمّ يجري نشره، يخاطب: «تعرفون أنّني توفّيت، وأريد أن أنصحكم، لقد امتلكت السيارات والمال وكلّ شيء، ولكن تبيّن لي أنّه لا شيء يضاهي نعمة واحدة من نعم الله الأهمّ، كالاستيقاظ في الصباح قادراً على الذهاب إلى الحمّام بنفسي، أو استنشاق الهواء النقيّ. ولقد انتُزِعتْ هذه النعم منّي شيئاً فشيئاً، وإبّان فترة وجيزة. ولكن هذا بذاته هديّة من الكريم، حيث أوحى لي أنّ أجَلي يقرع الأبواب، فمنحني فرصة لأن أتغيّر، وفتح عيني الموصدتين، على كلّ شيء في الحياة، حتّى أبسط التفاصيل. ولا تتسنّى هذه الهديّة لمن يجهلون ميقات موتهم. ويوم أن علمت بمرضي، وعيتُ إلى أنّه لا وقت وافراً أمامي، وأنّ أولويّتي هي أن أعيش حياتي بحذافيرها. إخوتي، في حياتكم اسعوا لحيازة هدف أو خطّة أو مشروع، واعملوا ما في وسعكم للنجّاح في ذلك، حتى لو اضطررتم أن تنخرطوا في مشروع لأحد آخر سواكم، فقط قوموا بشيء ما». Your browser does not support the video tag.