بعد وصول الخميني إلى السلطة في إيران، اعتقد البعض أنّ صفحة من العلاقات المتوترة بين إيران والوطن العربي قد طويت، وستحل مكانها حقبة جديدة باعتبار أن إيران ستصبح دولة إسلامية جارة للعرب، وأن علاقة مثالية ستنشأ بين طهرانوبغداد خصوصاً، وستفرض نفسها كإحدى حقائق المرحلة الجديدة، بسبب ما يبدو أنّه، رابطة مشتركة بينهما وهي حالة العداء المعلن مع الولاياتالمتحدة، غير أنّ تلك التوقعات لم تظهر إلى العلن، ولكنْ بصورة معكوسة تماماً لما توقعه المراقبون. تصدير الثورة ما جرى هو أنّ الخميني فاجأ المنطقة والعالم بمشروع أخطر وأكبر بكثير مما كان يحلم به الشاه في وقتها، مستنداً إلى مبدأ تصدير الثورة ونظرية ولاية الفقيه إلى الدول العربية المجاورة، وبالاستناد إلى نصوص دستورية فُصِّلت حسب حاجة النظام الإيراني الجديد للهيمنة والتوسع، وما زالت موجودة في دستور نظام الملالي، ولقد جاءت الحرب العراقية - الإيرانية حلقة على طريق تحقيق هذا الهدف، وتنطق أحداثها بكثير من وقائعها، وهناك وثائق محفوظة لدى وزارتي الخارجية والدفاع الإيرانيتين تؤكد أن خطط التوسع تم وضعها في زمن الشاه، ويورد الكاتب العراقي نزار السامرائي ما ورد على لسان هاشمي رفسنجاني، الذي كان يشغل منصبي رئيس مجلس الشورى، وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، خلال فترة حرب الثماني سنوات، وبعد تمكّن إيران من احتلال الفاو العراقية بداية عام 1986، من أنّ خطة احتلال الفاو كانت معدة في أدراج هيئة الأركان الإيرانية منذ عهد الشاه، لعلّ هذا ما يقدم الدليل القاطع على أنّ النظام الإيراني الذي جاء به الخميني، نجح في تغيير جلد إيران دون أنْ يمس جوهر الاستراتيجية الإيرانية الثابتة، التي تضمر العداء للعرب، وهذا ما دفع إلى الواجهة سؤالاً مهماً وملحاً، وهو: لماذا وقع التطابق في القناعات الإيرانية في الزمن الأميركي مع قناعاتها في الزمن الخميني، رافعاً شعار العداء والمواجهة مع الولاياتالمتحدة؟ ثم لماذا وجدت هذه الأفكار طريقها لتترسخ في مرحلة الإعداد لغزو كل من أفغانستان ومن بعدها العراق والمراحل التي أعقبت الاحتلال؟ أي لماذا تتطابق برامج إيران تجاه العراق حينما تكون جزءاً من الاستراتيجية الكونية الأميركية مع برامجها حينما تصبح في خندق الثورة الإسلامية؟ كما يتساءل البعض، الذي يجيب أنه منذ مجيء الخميني إلى السلطة في إيران، حمل معه من منفاه الاضطراري في مدينة النجف العراقية، كثيرا من حساسيات وعقد الماضي من العراق، ومن حسابات قديمة يريد تصفيتها مع البلد الذي استضافه، فحركت لديه أسباباً كثيرة لحقد لم يغسله موقعه الجديد في قيادة الدولة الإيرانية، وما تفرضه تلك المسؤولية من تجاوز لأحقاده الشخصية، وبعد برهة وجيزة من مجيء النظام الجديد انطلقت مهمات الخارج لتعصف بأمن الجوار بادئة من توجيه بوصلتها نحو العراق، وقد لا تدعو الحاجة إلى الذهاب إلى تفاصيل محاولات الاغتيال التي تعرض لها كثير من المسؤولين العراقيين، والتفجيرات التي شهدتها العاصمة العراقيةبغداد خاصة، ومما تم الإعلان عنه لاحقاً مما يؤكد تورط جهات إيرانية رسمية في الإشراف عليها وتهيئة مستلزماتها، ولكنّ عام 1980 كان من الأعوام الصعبة أمنياً في العراق، فقد تحولت مدن عراقية كثيرة إلى ساحات لتنفيذ عمليات قتل وتفجير وتدمير بشكل يكاد أنْ يكون يومياً، ولعلّ أحداث الجامعة المستنصرية في العراق، التي شهدت محاولة اغتيال طارق عزيز وزير خارجية العراق في عهد نظام صدام حسين في تلك المرحلة، ما يمكن اعتماده كنموذج لشكل عمليات حرب مدن من طراز جديد، أشرفت عليه أجهزة إيرانية مرتبطة بكبار المسؤولين في النظام الجديد، التي وفرت له التدريب والسلاح والمال والرجال، والكلام للسامرائي، ومنذ عام 1957 قامت مجموعة مسلحة باحتلال حدائق مبنى السفارة البريطانية في بغداد، وحاولت إحكام سيطرتها على مكاتب السفارة، لولا تدخل قوى الأمن العراقية التي قتلت المنفذين وأنهت العملية. نهج الاغتيالات في بيروت عام 1981م، وقعت حادثة، إذ اندفعت شاحنة محمّلة بالمتفجرات نحو المبنى الرئيس للسفارة العراقية، ما أدى إلى انهياره، ومقتل السفير العراقي عبدالرزاق محمد لفتة، والملحق الصحافي حارث طاقة، وسكرتيرته السيدة بلقيس الراوي عقيلة الشاعر العربي السوري الكبير نزار قباني، وقد تبنت العملية جهة مرتبطة بإيران. أما الحادث الأبرز في هذه المخططات الإيرانية، فكان محاولة اغتيال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في مدينة الدجيل (60 كم شمال بغداد)، في يوليو عام 1982، وهي العملية التي تبنتها إيران عبر إعلامها الرسمي علناً، قبل أنْ تعلن الحكومة العراقية عنها في تلك المرحلة، وهذه القضية تم كشف كثير من ملابساتها وتفاصيلها وأسرارها في المرافعات الخاصة بالقضية التي أخذت كثيرا من الشد والجذب والجدل الساخن بين الرئيس الراحل صدام حسين وهيئة المحكمة التي اتهمت بالتحيز، والتحرك في اتجاه سياسي بعيد عن سجل القضاء العراقي، وانتهت هذه المحاكمة بإصدار حكم بالإعدام على الرئيس صدام حسين، ثم تنفيذ الحكم أول أيام عيد الأضحى الموافق 30 / 12 / 2006. إضافة إلى تشكيل فيلق بدر، الذي أسس قبل الحرب العراقية - الإيرانية، والذي يعرف كثيرون من المتابعين الدور الذي كان يقوم به في العراق، ويمكن للمتابع لهذا النص أنْ يستنتج أنّ الدورة الأولى من فيلق بدر قد تخرجت عام 1979، وأنّ الثانية تخرجت عام 1980، قبل اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية، ما يعطي مؤشراً على قناعة فعلية بشأن ما تضمره إيران الملالي الإيراني حيال العراق. وهكذا يكون العراق الأرض الحلقة الأولى والخصبة لتصدير الثورة الإيرانية للمنطقة العربية، تارة باسم الأيديولوجيا الدينية وتارة باسم المصالح التاريخية، وهكذا نلاحظ تدخل الجانب الإيراني في أدق تفاصيل الشأن العراقي؛ أي أنّ إيران تسعى بكل جهد لجعل جوهر النظام في العراق بالكيفية التي تحددها. فرصة تدمير العراق وفي العشرين من أغسطس 1988، دخل قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وكان يفترض أنْ تبدأ مرحلة من الجهود لحل المشكلات القديمة التي أدت إلى الحرب، والمشكلات التي أفرزتها الحرب، لكنّ الوقائع اللاحقة أكدت أنّ إيران بمجرد أنْ توقف هدير المدافع، باشرت صفحة جديدة من تدخل أكثر تأثيراً في الشأن العراقي، ويمكن متابعتها على مرحلتين: الأولى تبدأ من يوم وقف إطلاق النار حتى يوم دخول القوات العراقية إلى الكويت، والثانية من 2 / 8 / 1990 وحتى بدء حرب الخليج الثالثة. تعتبر فترة ما بعد وقف إطلاق النار بموجب قرار مجلس الأمن الدولي المرقم (598) فترة اختبار النيات بين العراقوإيران، ومؤشراً لمرحلة طويلة مقبلة، خاصة أنّ العراق خرج منتصراً من تلك الحرب الطويلة الطاحنة، وأنّ إيران كانت تسعى لاستبيان موضع تستطيع الانطلاق منه؛ لتثبت لشعبها أنّها كانت محقة حينما كانت تدير وجهها عن كل المساعي الدولية لوقف القتال، ولهذا كان طبيعياً أن تبحث عن أي فرصة تتاح لها للانتقام والثأر من بلد كانت تنظر إليه باستصغار، ولذا نراها لا توفر مناسبة إلا واقتنصتها ضد العرب، ولأنّها كانت لا تزال تعاني عزلة دولية وإقليمية، فقد ركزت على توفير مزيد من الدعم للعراقيين من أصل إيراني، وللعراقيين الذين اختاروا اللجوء إلى إيران، وانتظموا في التشكيلات العسكرية التي أقامتها إيران لهم ليحاربوا بلدهم، برغم أنّ ذلك يمكن أنْ يعيد الوضع على الحدود بين البلدين إلى اللحظة التي سبقت اندلاع الحرب. كما أن حالة التبني القديم للحركة الكردية المسلحة التي بدأت منذ عهد الشاه، ولم تتوقف بمجيء الخميني، بل أخذت طابعاً أكثر منهجية في عهد ما يسمى الثورة الإسلامية، ثم حانت الفرصة التي انتظرتها إيران، دون جهد أو تدبير أو تخطيط منها، عندما ارتكب العراق غلطة العمر، وارتكب حماقة غير محسوبة النتائج، دفع العراق ثمنها غالياً، ومن ورائه الأمة العربية والإسلامية. حيث أقدم نظام صدام حسين على غزو الكويت، ما استدعى تدخلا عربيا ودوليا انتهى بإخراجه من الكويت، والواقع أنّ إيران استجابت في موقف معلن أخفى كثيرا من الاستعداد للتحرك في الوقت المناسب ضد العراق، فقبل بدء الحرب في السابع عشر من يناير 1991م أعلنت إيران أنّ حرس الثورة الإيراني سيبدأ أوسع مناورات عسكرية له جنوب غربي إيران – وهي منطقة الحدود المشتركة مع العراق – وهذا هو الذي وفر الغطاء اللازم لدخول عشرات الآلاف من المسلحين للعراق، من فيلق بدر ومن البيشمركة، وبقيادة مباشرة من أفراد حرس الثورة نفسه. يقول الكاتب العراقي نزار السامرائي والمتخصص في هذا الشأن: (إن قوات بدر ومعها حرس الثورة، نصبت نقاط سيطرة وهمية على طول خطوط تراجع القوات العراقية، فكانت تقتل الضباط بشكل خاص، وتأسر آخرين مع آلاف من الجنود الذين احتفظت إيران بهم إلى أيام قليلة قبل بدء حرب الخليج الثالثة، وكانوا يتعرضون لمعاملة هي مزيج من معاملة الأسرى الآخرين، ومعاملة المجرمين العاديين، ومعاملة المعتقلين من أعضاء المعارضة الإيرانية، كما كان اعتبار الطيارين الذين هبطوا بطائراتهم في القواعد الإيرانية أسرى، منافياً لكل قواعد القانون الدولي، ولتعهدات إيران أمام العراق أثناء زيارة عزة إبراهيم الدوري نائب الرئيس العراقي حينذاك إلى طهران واتفاقه مع المسؤولين الإيرانيين على صيغة التعامل مع القضايا التي ستفرزها الحرب، لكنّ الجانب الإيراني لم يلتزم بأي من التعهدات التي قطعها على نفسه، بل إنّه أصر على عدم إعادة الطائرات العراقية المدنية، أو طائرات الشحن العسكري، أو الطائرات الحربية التي ذكرت مصادر عراقية أنّ عددها يبلغ 148 طائرة من مختلف الأنواع، في حين أنّ إيران تصر على أنّ الرقم لا يصل إلى العشرين) وبهذا غدرت إيران ونكثت عهدها مع جارها. تعاون إيراني - أميركي تكشف مصادر صحافية غربية النقاب عن أنّ الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي كان قد عرض على الرئيس الأميركي السابق جورج بوش استعداد إيران التعاون للإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين باعتباره عدواً مشتركاً لهما معاً، وهذا الاستعداد لم يقتصر على الساحة العراقية، بل كان قد بدأ بشكل فاعل في الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001م، الذي انتهى بإسقاط نظام طالبان، حيث قدمت إيران معلومات استخبارية للأميركيين في حربهم ضد حركة طالبان في الوقت الذي كانت تدعي فيه العداء لواشنطن، وأبلغت هيلاري مان عضو الوفد الأميركي الذي أجرى حوارات مع الإيرانيين، أن مسؤولاً عسكرياً إيرانياً كان متحمساً لجعل الأميركيين يغيرون أهدافهم المطلوب قصفها في أفغانستان، ويتساءل الكاتب العراقي السامرائي قائلاً: من حق المراقب المحايد أن يتساءل هل هذا السلوك ينسجم مع الشعار الإسلامي الذي ترفعه إيران؟ احتلال العراق 2003 حوّله أرضا مستباحة للمشروع الصفوي إذا كانت إيران قد تدخلت في العراق منذ زمن بعيد، فإن تدخلها في هذا البلد العربي بعد احتلاله من قبل الولاياتالمتحدة يبدو الأخطر والأهم، فبعد نهاية الحرب وإعلان العراق بلداً محتلاً من قبل الولاياتالمتحدة، لم تجد إيران بأساً في القبول بتعامل ودي مع الوضع الجديد، فقد كان كمال خرازي أول وزير خارجية أجنبي يزور بغداد تحت الاحتلال، ومع الوقت بدأت السفارة الإيرانية في العراق تتحول إلى مركز نشاط استخباري وسياسي متعدد المحاور والوجوه والنفوذ، ودبّ النشاط في كل دوائرها لمواكبة التطورات المتسارعة في (عراق أمريكا) سعياً لتحويله إلى (عراق إيران). كما يقول السامرائي، الذي يضيف أنّ أميركا لم تكن لتكترث بمساعي إيران في تحويل الإنجازات الأميركية لمصلحتها، طالما كانت تعتقد أنّ المرحلة اللاحقة للمشروع الأمريكي ستكون إيران بالذات، وطالما كانت تفترض أنّ إيران لم تكن لتفكر بإثارة المشكلات أمام الأمريكان، وطالما ظلت أميركا على يقين أنّ (الإرهاب) الذي تواجهه لم يكن إرهاباً مدعوماً من إيران، وإنّما هناك مصلحة مشتركة للطرفين في مواجهة النشاط المسلح المعادي للأميركيين، ونظراً لتطابق المصالح بين واشنطنوطهران لم يبدِ المسؤولون في قوات الاحتلال قلقاً من دخول 10 آلاف إيراني إلى العراق خلال الأشهر الأولى للاحتلال، فالحدود لم تكن مراقبة من طرف (قوات التحالف)، رغم أنّ الأميركيين كانوا قد وعدوا بمنع أي تسلل منها، ولكن دخل الآلاف من الإيرانيين وتم منحهم هويات عراقية. كمال خرازي أول وزير خارجية أجنبي يزور بغداد تحت الاحتلال Your browser does not support the video tag.