التجديد أدى بدوره إلى تضاؤل الإحساس بالعادات والتقاليد والأعراف، ما يحتم علينا إعادة النظر في التقاليد السائدة؛ إذ لم يعد الإنسان الحديث نتاج التقاليد والبيئات التقليدية، وإنما نتاج اللحظة الجديدة والحالة العابرة والتغير الإيجابي السريع.. قد أكون حديث عهد بفلسفة تطوير الذات، فقد كنت أحيانًا حينما أزور المكتبات أو معارض الكتب، أو أتوقف عند أكشاك بيع الكتب، أظهر ميلًا ثقافيًا إلى كتب تطوير الذات، وأمتزج وأتفاعل مع أفكارها، التي أرى أنها اليوم نضجت واكتملت واستوعبت مفردات السلوك الإنساني والقواعد الأخلاقية، وأخذت تشيع في المجتمعات الإنسانية ثقافة السلوك. ولقد كنت أثناء دراستي فلسفات الهندوالصين واليابان في قسم الدراسات الآسيوية بجامعة سيتن هول في ولاية نيوجرسي بالولاياتالمتحدةالأمريكية على صلة بالوعي الفلسفي الآسيوي. كان ذلك قبل أن أقف على أفكار تطوير الذات في صياغتها الحديثة، لقد عايشت في ذلك الوقت مرحلة مشبعة بالأفكار الفلسفية. كان تاريخ الفكر الفلسفي الآسيوي يضع تعاليم شانكارا وهو بالمناسبة ذو تأثير هائل في تاريخ الفلسفة الهندية وهارشا وناناتك، وفي الصين كونفوشيوس ونسيوس ولودزه في واجهة الفكر الفلسفي العالمي، حين وضعوا القواعد والأصول الثابتة في الأخلاق ومبادئ السلوك، التي هي اليوم شاهد على تعاظم الوعي الفلسفي، الذي ميز الحياة الآسيوية في العصور المتقدمة. واليوم انتقلت نتائج تلك الفلسفات العقلية والتأملات الروحانية إلى الغرب، الذي أعادها بدوره إلى العالم من جديد في صيغ وسياقات أخلاقية جديدة، وهذا ما أشرت إليه في مقال سابق من أن الثقافات والحضارات نتاج إنساني، وأن هذا النتاج الإنساني تراث للبشرية باختلاف أجناسها ومعتقداتها، لا يستأثر به مجتمع دون مجتمع، أو حضارة دون حضارة، وقد حدث خلال دورات الحضارات المختلفة أن تأخذ حضارة عن أخرى، ثم يأتي طور تكون فيه الآخذة معطية. فمع بدايات القرن العشرين، مارست تعاليم تطوير الذات دروسًا في السلوك والأخلاق الاجتماعية على نطاق الغرب، واعتبرت إضافة نوعية للفكر الأخلاقي. ففي الوقت الذين كانت فيه آسيا [الصين، الهند] بمنزلة الحقل الذي أنبت الفلسفات الاجتماعية التي انبثقت بذورها في الغرب، كان كبار مفكري الغرب قد قطعوا شوطًا بعيدًا في إعادة صياغة مقولات الفلسفة الآسيوية، وتصوير العالم الذاتي للإنسان، ومعالجة كل ما هو اجتماعي في نطاق الأخلاق الاجتماعية والضمائر المستنيرة تحت نطاق التبادل الدولي للأفكار. وإن كان تبادلًا فكريًا فلسفيًا أحادي الجانب، حيث بقيت آسيا إضافة إلى سبقها التاريخي المنارة التي تتجه إليها أفكار مفكري الغرب، غير أن هذا اقتضى زمنًا طويلًا في إحالة تلك الصياغات الفلسفية إلى سلوك أخلاقي، وهذا ما كان له أن يكون لولا يقظة الغرب واستلهامه أفكار العالم القديم، وإحالتها إلى صياغات أخلاقية جديدة. ففي جامعة هارفرد يدرس د. مايكل بويت مادة النظرية الكلاسيكية والأخلاق الصينية، وكان من أكثر المفكرين استلهامًا للمبادئ الصينية. المادة تقوم على أفكار كونفوسيوش ولودزه، وقد غيرت تلك الأفكار مجرى حياة كثير من الطلاب، فقد كان لها تأثير عميق في تجاربهم، وكانت خريطة طريق إلى المستقبل. وإذا كان لا بد لنا من وقفة أخرى، فلنقفها مع المفكر جاي فينلي؛ لما تنطوي عليه أفكاره الفلسفية من مهارة عالية ودقة ملاحظة. ورغم أن فينلي من ولاية أوريجون في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن أفكاره خرجت من تحت الخيمة الآسيوية، فقد قضى أعوامًا طويلة ما بين الهند وأجزاء من الشرق الأقصى، استمد فيها تجاربه من السياقات الفلسفية والنزعات الصوفية، وكانا لهما تأثير عميق في العالم الأخلاقي الجديد. وإذا كان تاريخ تطوير الذات يعود إلى التربة الآسيوية، فإن روح الغرب الجديدة شكلت الأساس الجديد للإنسان المتطور والمفكر والمبدع والفعال. واليوم تقوم العولمة على تدويل أفكار وموضوعات السلوك الإنساني. لقد تلاشت الصيغ القديمة للحياة، التي تستند على الأعراف والتقاليد ووجهات النظر التقليدية، فلم يعد الإقبال على العادات والتقاليد هدفًا في ذاته، فكلما ازداد المجتمع تحولًا عن تعاليم التقاليد، ازداد تحولًا إلى الواقع والدخول في الحاضر الجديد، فالعادات والتقاليد تقطع الصلة بالواقع الحي. فالتطور السريع للتكنولوجيا أدى إلى الشغف بالتجديد، والتجديد أدى بدوره إلى تضاؤل الإحساس بالعادات والتقاليد والأعراف، ما يحتم علينا إعادة النظر في التقاليد السائدة؛ إذ لم يعد الإنسان الحديث نتاج التقاليد والبيئات التقليدية، وإنما نتاج اللحظة الجديدة والحالة العابرة والتغير الإيجابي السريع، وهذا بالضبط هو العامل الذي كنا نفتقر إليه. فمجاراة الحياة والتكيف معها سُنة من سُنَن الحياة، وانعدام المرونة والتحول الإيجابي معناه فقداننا القوة. Your browser does not support the video tag.