حين كان يغادر منزله في «حي الروضة» يشعر بفرح طاغٍ، يستعجل الوصول محاطاً بمن يحب، كان وجهه مضيئاً وخاطره منشرحاً، أعد الكثير من الأسئلة حول الأشجار التي قام بزراعتها وخاصة النخيل البطيء في نموه، والبطيء في ثمره، والبطيء في طلعه، لكنه قلب المحب الصادق الذي لا يمل الانتظار ولا يستعجل اللحظة المبتغاة.. تلك يا سادتي صفات العاشق الصادق. لم يكن البعد الذي يستغرقه للوصول إلى «بنبان» يمثل له بعداً أو زمناً، كانت الرحلة أشبه ما يكون بالبعد الصوفي الذي يلغي المسافات، بل يختصرها أو يستزيدها طلباً للمتعة الروحية. ألقى التحية على الأشجار واحدة واحدة، وبدأ يطرح الأسئلة عن كمية الماء، كان يحدثها شجرة شجرة، ونخلة نخلة، هز رأسه مرات عديدة وكأنه يصغي لصوت الأشجار وما تبوح به. اتخذ مقعده، دندن من ذاكرته الزاخرة بالغناء وهو يلقي بنظره إلى الأشجار التي تشاركه شجناً يفيض من فؤاده العاشق وذكريات رحلة العمر. انطلق صوت المؤذن إيذاناً بغروب ذلك اليوم وبدء ليلة سمر تنطلق بعد صلاة العشاء وانتظار مباراة برشلونة الفريق الذي يهواه. البسمة ترتسم على شفتيه، وفرح مخبوء يستبد به، لتهطل مواكب من فرح منتظر. كان فرحاً مثلما عهدته يتمايل طرباً وفرحاً بوجود أحبته وخلانه، لكنه هذه المرة لم يدندن ولم يلمس العود. قال وعيناه تبرقان: سأسمعكم جزءاً من قصيدة لشاعر نظم «حائية شهيرة» وهو أبو الفتح النحاس، الذي ولد في حلب وعاش في المدينة في القرن الحادي عشر، وأنشد: بات ساجي الطرف والشوق يلح والدجى إن يمض جنح يأتِ جنحُ فكأن الشوق باب للدجى ما له غير هجوم الصبح فتحُ يقدح النجم لعيني شرراً ولزند الشوق في الأحشاء قدحُ لا تسل عن حال أرباب الهوى يا ابن ودي ما لهذا الحال شرحُ كم أداوي القلب قلّت حيلتي كلما داويت جرحاً سال جرحُ ثم توقف قليلاً وقد نال منا التأثر مساحة من حزن داهم ثم أكمل ببيت أخير وكأنه يحدثنا الآن: ولكم أدعو وما لي سامعُ فكأني عندما أدعو أبحّ رحمك الله يا أبا أصيل كم أسعدتنا وأنت بيننا وها أنت تسعدنا وحيداً. Your browser does not support the video tag.