لحظات من الفرح والترقب شهدتها أسرة أبي عبدالله في انتظار مولود جديد، وكان الأطفال كالعادة أشد ترقباً ولهفة، ففي كل ساعة ينتظرون هذا الخبر السعيد، ولكن لن يكون هذا المولود المنتظر أخاً أو أختاً لهم، بل هو مولود الماعز أو الضأن التي تتقاسم معهم سكنى البيت الطيني في الحوش القريب من غرف المعيشة والنوم، حيث يرقبونها خلال حركتها المثقلة وهي تحمل في أحشائها مولوداً أو اثنين، حيث ينبئ بذلك كبر بطنها، وفي صباح أحد الأيام استيقظ الصغار على صوت ثغاء صغار الماعز التوءم، اللذين قدما للدنيا فسارعوا إلى مشاهدتهما بقرب أمهما، وهي تقوم بلعقهما لتنظيفهما مما لحق بهما من أثر الولادة، وعلى الفور كعادة أطفال كل بيت يولد فيه صغار الماشية تم إطلاق اسم على كل واحد منهما، فيما اختار كل واحد من الصغار أحدهما للعناية به، فيما تقدمت ربة البيت إلى الذكر منهما وأمسكت به لتخاطب زوجها قائلة: "هذا سيكون أضحية لوالدي"، فيهز الزوج رأسه موافقاً، وقائلاً: "إذا ولدت الأخرى ذكراً فسأجعله أضحية أيضاً لوالدي"، فقد كانوا يفرحون بولادة الأنثى من المعز والضأن للاستفادة من ألبانها، وحتى تنتج لهم أولاداً جدداً ويتم الاستفادة منها، أما إذا كان المولود ذكراً فيتم تربيته لتقديمه أضحية في يوم العيد، وما زاد فيتم بيعه إذا بلغ سن الفطام، وكان من جل عنايتهم بصغار الغنم تنظيفها ودوام مداعبتها ووضع الحناء على شعر مقدمة رأسها خاصةً إذا كانت تربى كأضحية. فائدة ونفع هذه الحال هي حال كل بيت فيما مضى من بيوت جيل الأمس التي لا يخلو منها حيوان أو طير داجن يتربى داخل البيت وبين أفراده، فقد عرف الإنسان منذ القدم بترابطه مع الحيوانات الأليفة التي استأنسها وصارت تعيش معه جنباً إلى جنب في منزل واحد، وبات يحرص على اقتناء ما يعود بالنفع منها، ولعل الغنم مثل الماعز أو الضأن والطيور الداجنة هي ما كان يحرص على أن يقتنيها للاستفادة من لحومها وما تنتجه من حليب وبيض، وعلى كل حال فإن الأساس في تربية هذه الحيوانات والطيور هو الاستفادة من لحومها وبيضها في الأكل، وكذلك الاستفادة مما تنتجه من حليب باستخراج اللبن الرائب أو الزبدة أو السمن البري أو "الإقط"، ولم يكن اقتناؤها من أجل الزينة كما هي الحال في عصرنا الراهن عصر الرفاهية التي طغت عليه، فأصبح الكثير من الناس يقتني الحيوانات أو الطيور للزينة فقط، فالبعض يفضل القطط، والبعض الآخر السلاحف أو الأسماك أو طيور الزينة ك"الببغاء" أو "الكناري" أو "الزيبرا" أو "طيور الحب" وغيرها، بل تعدى الأمر إلى قيام البعض وهم قلة باقتناء نوع من الكلاب لتربيتها في البيوت لا للحراسة أو الصيد، بل من أجل التربية والخروج بها إلى الحدائق وممرات المشاة، وبات من يملك هذه الحيوانات الأليفة في منزله أو الطيور يعتني بها عناية فائقة، فصار يصرف عليها شهرياً الكثير من المال، حيث يجب الذهاب بها إلى الطبيب البيطري من أجل إعطائها التطعيمات اللازمة والفيتامينات، وكذلك يقدم لها طعاماً صحياً، مما جعل هذه الحيوانات والطيور ترهق كاهل رب الأسرة، وانقلبت الموازين فبدل أن يستفاد منها في تلبية احتياجات المنزل من الأكل في السابق صارت مصدر إزعاج وقلق جراء رعايتها والعناية بها. حليب في صميل وفي الأمس القريب اعتاد الناس على صوت صياح الديكة في وقت متقطع من النهار أو مع بزوغ الفجر، إضافةً إلى أصوات المواشي في أحواش المنازل كالأبقار والأغنام، فقلما يخلو بيت من حيوان أليف أو طائر، ورغم أن بيوت القرى والبلدات كانت متلاصقة إلاّ أن الجميع يستمتع بتربية ما يشاء من طيور وحيوانات، هدفه منها الاستفادة من لحومها وما تنتجه من بيض، ويحرص الغالبية على اقتناء الحيوانات التي تنتج الحليب ومن أهمها الماعز والضأن، وقلة من الناس تستطيع اقتناء البقر لكلفة ثمنه وعلفه، وكانت ربة البيت تقوم بحلب الماعز وجمع حليبها في "صميل"؛ وهو الوعاء الذي يخفق فيه الحليب لتستخرج منه الزبدة، وبعد ذلك يتم شرب اللبن الرائب، ومن الزبدة يتم استخراج السمن، ولم يكن هناك أي تضايق من قبل الجيران من جراء تربية الغنم أو الطيور في البيوت، فالحال كانت واحدة، وكان الجميع من أهل البيت يعتني بما لديه من ماشية، فالكبار يتولون جلب الحشائش لها، بينما يتولى الصغار عملية إطعامها وتفقدها كل يوم، كما كان إطعام الماشية يتم عن طريق تركها ترعى في المراعي القريبة من البلد بواسطة "شاوي" الغنم الذي يصطحبها كل صباح ويعود بها قبل غروب الشمس بلحظات، حيث يكون الأولاد والبنات في انتظاره، فيمسك كل واحد منهم بما يخصه من غنم ويعود به إلى البيت لتتولى الأم حلب الغنم، ولم يكن هناك أي حيوان أو طير يتم اقتناؤه من أجل الزينة أو الترفيه، فلم يكن الناس يقومون بتربية قطط أو كلاب إلاّ للحاجة، كأن تنتشر القوارض في البيت من الفئران مثلاً فيتم اقتناء قط كي يقوم باصطيادها ومن ثم يتم التخلص منه بعد ذلك بطرده من المنزل، أو أن يقتنى كلب من أجل حراسة مزرعته أو أغنامه إذا كانت في المرعى، أو في حوش قريب من داره. تربية الحمام وكان الغالب لدى الناس تربية الأغنام في البيوت للاستفادة من لحومها وبما تنتجه من ألبان وأصواف وجلود، ومن الطيور كان الدجاج هو الطائر الوحيد الذي يربونه، حيث يأكلون من إنتاجه من البيض ومن لحم ذكوره إذا كانت كثيرة، حيث إن الغالب أن يترك مع مجموعة الدجاج ذكر واحد فقط كي لا يقع بينهما شجار، وفي وقت لاحق وبعد تطور المعيشة ومعرفة الناس للبيوت الشعبية ظهر الاهتمام بتربية الحمام على أسطح المنازل أو في ممرات البيت الواسعة المرتفعة وذلك بوضع كراتين من الخشب ك"كراتين الشاي" كبيوت للحمام، الذي كان سريع التكاثر، ولم تكن تربية الحمام من أجل الأكل، بل من أجل الزينة، ففي الأمس القريب لا يكاد يخلو منه منزل، حيث كانوا يستلطفونه ويعملون على تربيته ويألفونه، ولعل فئة الشباب هي الأكثر ولعاً في تربيته والاهتمام به على الإطلاق، فهو لديهم من الهوايات المحببة، فتراهم يقضون خلال اليوم الساعات الطوال في العناية به وإطعامه وتنظيف مكانه، وكذلك التلذذ بطيرانه على شكل أسراب في أعلى أسطح المنازل، خاصةً في وقت "العصرية" وقبيل الغروب، ولا يكاد يخلو منزل من القرية من هديل حمام، لذا كان من سكان المنازل الأصليين الذي يلقى العناية الفائقة من جميع أفراده، ولا غرابة في ذلك، فالحمام منذ القدم من الطيور الأليفة والمحببة للكثير من الناس، وكثيراً ما يردد ذكره الشعراء في قصائدهم، وكانت أسطح المنازل من أنسب الأماكن التي يربى فيها الحمام، حيث تقام فيها "عشّة الحمام" وجمعها "عشش"، وذلك لعدة اعتبارات منها أنها أماكن غير مستغلة للسكن أو أي نشاط، فيتم استغلالها ببناء "العشش" وتربية الحمام، وأيضاً فالسطح يُعد مكاناً مرتفعاً مما يسهل على الحمام الطيران فيه بسهولة والعودة إليه، حيث يعمد البعض إلى وضع علم معلق بسارية أو "خرقة" في السطح قريباً من مكان "العشّة"، لكي يسهل اهتداء الحمام إليه إذا طار بعيداً، كما يعد السطح مكاناً آمناً ومحرزاً ضد السرقة أو التخريب أو هجمات القطط. صناديق جديدة ويعمد الكثير من الآباء إلى مساعدة أبنائهم في بناء "عشّة الحمام" ويهيئون لهم الجو المناسب، لكي يهتموا بها، فترى الشاب يصعد إلى سطح المنزل فور عودته من المدرسة ليتفقد حماماته، فيعدها أولاً ومن ثم يتفقد من وضع البيض منها ومن فقست بيضاتها، وتستمر الرعاية بتقديم الأكل والماء وتنظيف الحظيرة، وكذلك العمل على توسعتها على الدوام، إلى جانب إضافة صناديق جديدة، وهي متوفرة كصناديق حفظ الشاي الخشبية، حيث يتم الاحتفاظ بها واستغلالها كمساكن للحمام، تعلق في جدار السطح و"الحوش" لاستيعاب تكاثرها السريع، حيث تفقس بيضة الحمام خلال ثمانية عشر يوماً تقريباً، وتنمو بسرعة كبيرة، ويتم التزاوج ومن ثم البيض و"التفقيس" وهكذا، أمّا إطعام الحمام فلم يكن مكلفاً، فجل ما يتم تقديمه له من طعام هو من بقايا أكل البيت مما يجتمع على السفرة من بقايا الأرز أو فتات الخبز، وقد يستعان بشراء كيس من الشعير أو القمح إذا كانت أعدادها كبيرة فيكفي هذا الكيس لشهر أو أكثر. مصدر إزعاج وكانت القطط تطوف بين البيوت وتقفز من بيت إلى آخر دون أن تمنعها حواجز، فجدران البيوت كانت قصيرة وبعض نوافذه من دون إغلاق، فهي مفتوحة على الدوام كما في البيوت الطينية وبداية البيوت الشعبية، ولكن لم تكن محببة لدى الكثيرين من الناس قديماً، وإن كانت لها العديد من الفوائد ومن أهمها القضاء على القوارض، ولكن كانت ضيفاً غير محبب لدى كثير من الأسر بسبب أكلها لبعض الطيور التي تربى كالدجاج أو الحمام وخصوصاً صغارها، أو أكلها للحم المقدد الذي يسمى "القفر"، والذي ينشر على عود معلق في السقف بعد تشريحه ليجف، ومن أجل ذلك يتم إعداد كمين محكم للإمساك بها ومن ثم وضعها في "خيشة" من خياش الأرز أو القهوة ومن ثم التخلص منها برميها في مكان بعيد عن المنزل فلا تعود إليه، ولكن البعض منها يعود مجدداً إلى البيت الذي طرد منه، خاصةً إذا كانت المسافة بين المنطقة التي رمي بها وبين البيت قريبة، مما يجعل البعض يعتقد أن هذا القط من الجن ومتشكل على صورة قط فيتم الاستعاذة منه ثلاثاً ومن ثم اصطياده ورميه في مكان أبعد، فإذا عاد فيتم التخلص منه بقتله، وقد يعمد البعض إلى قتل القط للتخلص من شره وأذاه فوراً دون إبعاده إذا ألحق الضرر به، كأن يقضي على طيوره كلها، كما كانت القطط مصدر إزعاج بكثرة موائها ومشاجراتها مع بني جنسها، خاصةً في هدأة الليل، مما يجعل رب البيت يستيقظ على إزعاجها ويقوم بطردها ليتسنى له النوم الهادئ هو وأسرته. تقليد أعمى ومع انتقال الناس للمنازل الحديثة وتغير نمط الحياة وكثرة وسائل الترفيه انتشرت ظاهرة تربية الحيوانات الأليفة والطيور بين الناس على غير ما عهدها جيل الأمس الذي كان يربيها من أجل الانتفاع بلحومها وما تنتجه من ألبان أو بيض، حيث انتشر الاهتمام بتربية القطط خاصةً، ولكن ليس للقطط المألوفة لدينا، بل لأنواع جديدة وسلالات لم تكن تعرف من قبل مثل القط "الشيرازي" و"السيامي" و"الفان التركي" و"الحبشي" وغيرها والتي يتم اقتناؤها بأسعار كبيرة قد يراها البعض خيالية، إذ تصل في بعض الأحيان إلى آلاف الريالات، ويتم العناية بها حيث يتطلب إطعامها طعاماً خاصاً يباع في محلات حيوانات وطيور الزينة أو الأسواق الكبرى، كما أن مكان إقامتها وأواني أكلها خاصة، وتخضع بصفة دورية إلى زيارة الطبيب البيطري لتطعيمها وإعطائها الفيتامينات اللازمة، إضافةً إلى العناية بها كحلق شعرها وتنظيفها، مما أرهق كاهل الأسر مادياً نتيجة تلبية رغبات صغارها في اقتناء تلك الحيوانات المدللة التي تقتنى للزينة فقط، ومن أنواع الحيوانات التي انتشر اقتناؤها أسماك الزينة التي توضع في حوض ماء خاص بها مزود بإضاءة وفقاعات ماء، وكذلك السلاحف والقردة، وربما يتم اقتناء بعض أنواع وسلالات الكلاب التي لم تكن تدخل البيوت سابقاً إلا للحراسة أو من أجل الصيد، ولكن التقليد الأعمى للغرب والمباهاة بين بعض الأسر هو من أدى إلى انتشارها، أمّا الطيور فلها شأن آخر إذ انتشر الاهتمام بتربية الطيور للزينة فقط كطيور الببغاء و"الزيبرا" و"الكروان" و"الكناري" و"البادجي" و"الحسون" وغيرها الكثير، وفي هذا الزمن ودع جيل الأمس تربية الحيوانات والطيور من أجل الاستفادة من لحومها وإنتاجها من البيض والحليب ومشتقاته إلى ما استبدله جيل اليوم من حيوانات للزينة والتباهي والتقليد الأعمى فقط. عشّة حمام على سطح أحد المنازل قديماً ما زاد من تربية الأغنام يتم بيعه في السوق امرأة تجمع الحليب في الصميل قديماً أسماك الزينة لها نصيب من اهتمام الجيل الحالي قط شيرازي يتم الاعتناء به من قبل جيل اليوم اقتناء الطيور ظاهرة انتشرت حالياً في أغلب المنازل تربية الدجاج كانت من هوايات جيل الأمس Your browser does not support the video tag.