يا له من فقد عظيم ذلك الذي يجعل منا خلقاً آخرين، نتخلى عن مظاهر جلدنا وصبرنا وقوتنا، ونخفض جناح الذل من الرحمة لأمهاتنا لنودعهن بما يليق بحنانهن ورفقهن وابتساماتهن وأيديهن التي لن ترفع إلى السماء مجدداً بالدعاء لنا.. المجاملات الاجتماعية إحدى سمات مجتمعاتنا العربية، سواء كانت مواساة في فقد، أو تهنئة في مناسبة سعيدة، وأتصور أنني لست وحدي من ينظر إلى أحوالنا في هذه المناسبات بعين المتأمل لأحوالنا. فمن وحي المناسبات التي لا تنقطع في مجتمعاتنا، لاحظت أننا نتفرد من بين شعوب المنطقة العربية من يحضرون جميع المناسبات بالثياب نفسها، ليس عندنا ثوب للأفراح، وآخر للعزاء، وأتصور أن هذا يعود غالباً إلى التنشئة الإيمانية التي ربيت في ظلها أجيال رسخ في وجدانها الرضا بقضاء الله خيره وشره، وعدم إبداء أي نوع من الاعتراض عليه مهما كان ظاهرياً، كأن نخص العزاء بالألوان السوداء أو الداكنة أو ربطة العنق السوداء في إشارة إلى الحزن والحداد، ونخص الأفراح بالألوان الزاهية. وكم حضرت مناسبتي عزاء وعرس تصادف توافقهما في ليلة واحدة بالثوب نفسه، أخرج من العزاء إلى العرس مباشرة، شأني شأن الجميع. أيضاً من وحي المناسبات في بلدنا، تجد الحرص بادياً على التماسك في مواجهة الشدائد، وتجد الصبر والجلد بادياً على وجوه أهل الميت في مناسبات العزاء، هذا هو المعتاد في مجتمعنا، فقط في حال فقد الأم تجد الجزع بادياً في عيون أبنائها الرجال، يستوي في ذلك صغيرهم وكبيرهم، حتى إنني كنت ألمس نظرة يتم ولوعة في عيون كثير من الرجال الكبار الذين ربما تخطوا الستين، حزناً على أمهاتهم وهم يتلقون العزاء، فما أعظم الأم، وما أعظم شأنها، حين تنحني من أجلها ظهور الرجال، وتلتمع في العيون العبرات، ويقف الرجل ضائعاً كأنه طفل مفقود يفتش بين الجموع عن أمه. يا الله ما أصعبها في نظرة التياع أصبحت أميز بها أبناء الفقيدة دون غيرهم حين أذهب إلى مناسبة عزاء.. وما أعجبها من حال تلك التي يكونون عليها.. يا الله كأنهم أيتام في المشيب. فيا له من فقد عظيم ذلك الذي يجعل منا خلقاً آخرين، نتخلى عن مظاهر جلدنا وصبرنا وقوتنا، ونخفض جناح الذل من الرحمة لأمهاتنا لنودعهن بما يليق بحنانهن ورفقهن وابتساماتهن وأيديهن التي لن ترفع إلى السماء مجدداً بالدعاء لنا، فيا له من حرمان عظيم أن يتوقف دعاء أمك الذي كان حتى الأمس يفتح لك الله به المغاليق، ويقيل العثرات، ويفرج الضوائق، ويكشف الكربات، حتى يطمئن فؤادها وتقر عينها. أي ضياع هذا الذي تبتلعنا دواماته في ظلمة الكون حين تنام عين الملاك الحارس الذي يلاحق أحدنا بالدعاء أينما ذهب، داعياً له بالحفظ والنجاة وسعة الرزق. ويا لها من مفارقة حين يقف الرجل في عزاء أبيه صامداً قوياً كأنه يؤكد لنفسه وللمعزين أن والده صنع منه رجلاً قوياً صلباً في مواجهة الخطوب، لكنه حين يفقد أمه يتخلى عن جلده وقوته، ويلين بين يدي حزنه، كأنه يقدم رجولته التي يعتز بها أضحية يريق دماءها تحت قدمي سيدته الوالدة، كأنه يقول لها إنه لا يقوى على حزن فراقها، وإنه عاد طفلاً صغيراً يشتاق إلى عناقها، وتتوق روحه إلى تقبيل يديها، ويخفق قلبه من أجل سماع دعوة من دعواتها. إن اعتياد وجود الأم في حياتنا، قد يتسبب أحياناً في التهاء بعضنا بأشغالهم وأعمالهم وربما أبنائهم وزوجاتهم، ولهؤلاء أقول أفيقوا، والزموا أمهاتكم، قبل أن تفيقوا على حسرة الحرمان منهن، ويا لها من حسرة كبرى، قد تبقى مرارتها في حلق أحدنا إلى أن يفارق الحياة، كلما تذكر أنه فرط في جنب أمه، وضيع أجمل أعوام عمره التي كان يعيش رغدها وهناءتها بفضل دعائها، وأن التي كانت تدعو له، والتي كان يكرم لأجلها، صعدت روحها إلى بارئها، وخلفت له ندم العمر. حفظ الله من على قيد الحياة من أمهاتنا، ورحم المتوفيات منهن، وأنزل عليهن رحماته، إنه هو البر الرحيم. Your browser does not support the video tag.