الكل منا في هذه الحياة يمتلك سراً أو أسراراً يحاول أن يخفيها عن أقرب قريب، ولكن مع كثرة الانشغال والتفكير بها يحتاج أن يخبر بها من يثق به من صديق أو قريب كي يستريح من هم حملها ولإيجاد كذلك حل لها إذا كانت مشكلة أو معضلة تواجهه في الحياة ولا بد أن يتخذ بها قراراً قد يكون في أغلب الأحيان مصيرياً، ومما لا شك فيه أن كتمان السر يساعد على النجاح في الأعمال، ويؤمِّن السالك من أخطار الطريق، ويريح الضمير، ويحفظ للإنسان مكاسب طيبة ما دامت بعيدة عن علم الغير، ولا يتيح للمنافس أو العدو فرصة يظهر بها عليه أو ينال بسببها منه، فإفشاء السر موجب للضغينة، موقع في الحرج، مفرق بين الأحبة، ومخرب للأسر، ومسبب في اضطراب الأمن، وممكِّن للعدو من النيل من الإِنسان أو الجماعة، فقد يكون عند الإِنسان مثلاً ثروة لو عرف الغير سرها لأغرت اللصوص أو أكثرت الحساد عليه، وقد يكون مشروعاً علمياً لو اطلع الغير عليه لسبقه إليه، لذا فقد كان حفظ السر ولا يزال هو مطلب كل من يقوم بإيداع سره إلى من يحفظه، وكان جيل الأمس القريب يضرب أروع الأمثلة في حفظ السر في وقت كانت فيه الحياة ببساطتها أكثر قساوة من حيث شظف العيش وقلة ذات اليد ولكن كان الناس أكثر تكاتفاً مع بعضهم البعض وأكثر ألفة ولين جانب، حيث يجد المرء في ذلك الزمن الكثير ممن يلجأ إليه لمصارحته بهمومه وحفظ سره الذي يضيق به صدره فيجد السلوى في ذلك وتبديد الهموم، بعكس جيل اليوم الذي صار أكثر انصرافاً عن الصديق بمشاغل الحياة المترفة والانغماس في ملذاتها فصار كل همه هو أن يعيش من أجل الترفيه وصار الكثير منهم لا يتحمل سماع هموم غيره والإنصات إليه وحتى لو طارحه همومه وأسراره تجده لا يأبه بها وقد يذيع سراً سمعه وذلك لقلة تقديره للمواقف وعدم اهتمامه بما سيحدث من إذاعته لسر غيره وذلك لوجود الكثير من الناس في هذا الزمن ممن لا يحفظ الكلمة ويشاطر الناس همومهم وآلامهم. حفظ الإسرار حفظ السر وكتمانه قاعدة عظيمة في التعامل مع الإخوان والخلان، وهي من أخلاق أهل الإيمان، وإفشاؤها دون ضرورة مبيحة ولا حاجة ملحة من أخلاق أهل النفاق، وقد جاءت الأدلة تترا في الحث عليه وبيان فضله، والتحذير من التخلق به وخاصة أسرار البيوت فإن الذي ينشرها من شر الخلق عند الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) كما قال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود) ومن أجل ذلك جاء التحذير الشديد من إفشاء السر، وجاء الأمر بحفظه وصيانته، وقد قالوا قديماً: إن أمناء الأسرار أقل وجودًا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار، لأن إحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق، ومن عجائب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزانها كان أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثرت خزانها كان أضيع لها، وقد قسم الحكماء الأسرار إلى نوعين أولهما هو ما يبوح به إنسان لآخر من حديث يُستكتم، وذلك إما تصريحاً كأن يقول له: اكتم ما أقول لك، وإما حالاً كأن يتحرى القائل حال انفراده بمن يتحدث معه، أو يخفي حديثه عن بقية مجالسيهِ، في هذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فهو أمانة، أما النوع الثاني من الأسرار فهو أن يكون حديثَ نفس بما يستحي الإنسان من إشاعته، أو أمراً ما يريد فعله، والكتمان في النوعين محمود، فهو في الأول نوعٌ من الوفاء، وفي الثاني نوعٌ من الحزم والاحتياط والستر، فإذا استودعت أحدًا سرك فأفشاه فلا تلومنَّ إلا نفسك، إذ كان صدرك أضيق عنه، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ( ما وضعت سري عند أحدٍ فأفشاه عليَّ فلمته؛ أنا كنت أضيق به حيث استودعته إياه)، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سِرُّك أسيرك، فإن تكلَّمتَ به صِرْت أسيره). أسرار النساء (المرأة لا تحفظ سراً) مفهوم شائع في المجتمع وتشربته ثقافته وتبنته بعض الأسر في تربية النشء والتمييز به بين الجنسين، وتقره نساء وترفضه نساء أُخر وتجحده أخريات وإن استيقنته قلوبهن، وهناك نوع من النساء تعترف بأنها لا تستطيع كتمان السر، وأن حفظه يسبب لها مرضاً وحمى في الليل، وما إن ينجلي الصباح حتى تبوح به لأقرب شخص، فحالها كحال الشاعر: وإن قليل العقل مَن بات ليلةً تقلبه الأسرار جنباً إلى جنبِ وفي دراسة قال الدكتور (مايكل كوكس) إن المرأة لن تستطيع أن تحافظ على سر أو تؤتمن عليه مهما بلغت أهميته، إذ غالباً ما تخبر شخصاً بعد 47 ساعة و15 دقيقة كحد أقصى، كما أثبتت التجارب في أن المرأة عمرها أطول من الرجل في أنحاء العالم والسبب في ذلك يعود إلى أنها لا تستطيع كتمان أي سر في حياتها، ومع ذلك فإن هناك العديد من النساء من تكتم السر بل وتتفوق على الرجال في ذلك خصوصاً إذا كان في إفشاء هذا السر عواقب كبيرة ومصيرية. حكم وأمثال ورد الكثير من الحكم والأمثال التي تدعو إلى حفظ السر وكتمانه وتحذر صاحب السر من البواح به إلى أحد ما دام قادراً على كتمانه ولو لأقرب قريب من زوجة وولد أو صديق، ومن أجمل ما قيل في ذلك وأصدقه قولهم (كل سر جاوز الاثنين شاع)، ومن الحكم في ذلك قولهم أيضاً: انْفَرِدْ بِسِرِّك وَلَا تُودِعْهُ حَازِمًا فَيَزِلَّ، وَلَا جَاهِلًا فَيَخُونَ، كما قالوا: أدنى صفات الشريف كتم السر، وأعلاها نسيان ما أسرَّ به إليه كما جاء في الأمثال قولهم: صدور الأحرار قبور الأسرار، -وقولهم صدرك أوسع لسرِّك، أما أبيات الشعر التي قد حثت على حفظ السر وعدم إفشائه قديماً وحديثاً فهي كثيرة ولا تكاد تحصى، ومن أشهر ذلك قديماً ما حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ تَذَاكَرَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِ حِفْظَ السِّرِّ فَقَالَ ابْنُهُ: وَمُسْتَوْدَعِي سِرًّا تَضَمَّنْتُ سِرَّهُ فَأَوْدَعْتُهُ مِنْ مُسْتَقَرِّ الْحَشَى قَبْرَا وَلَكِنَّنِي أُخْفِيهِ عَنِّي كَأَنَّنِي مِنْ الدَّهْرِ يَوْمًا مَا أَحَطْتُ بِهِ خُبْرا وَمَا السِّرُّ فِي قَلْبِي كَمَيْتٍ بِحُفْرَةٍ لِأَنِّي أَرَى الْمَدْفُونَ يَنْتَظِرُ النَّشْرا وكذلك قول الشاعر : إذا المرء أفشى سره بلسانه ولام عليه غيره فهو أحمق وقل الشاعر أيضاً: وما السر في صدري كثاو بقبره لأني أرى المقبور ينتظر النشرا ولكنني أنساه حتى كأنني بما كان منه لم أحط ساعة خبرا ولو جاز كتم السر بيني وبينه عن السر والأحشاء لم تعلم السرا وأخيراً فان خير ما قيل في ذلك قول الشاعر: لا يكتم السر إلا من له شرف والسر عند كرام الناس مكتوم السر عنديَ في بيت له غَلَق ضلت مفاتيحه والبابُ مختوم قصص وشواهد ومن قصص كتمان السر قصة الطحان مع زوجته حيث حكي أن رجلاً كان عنده طاحون ولديه حمار يطحن عليه وله زوجة سوء وهو يحبها وهي تكرهه، وكانت تحب جاراً لها وهو يبغضها فرأى زوجها في النوم قائلاً يقول له: (احفر في الموضع الفلاني من مدار الحمار بالطاحون تجد كنزاً)، فلما انتبه من منامه حدث زوجته بما رأى في منامه وأمرها بكتمان السر فأخبرت بذلك جارها لأجل أن تتقرب إليه فعاهدها أن يأتيها ليلاً، فأتاها ليلاً وحفر في مدار الطاحون فوجدا الكنز فاستخرجاه فقال لها الجار: كيف نصنع بهذا؟ فقالت: نقسمه نصفين بالسوية وتفارق أنت زوجتك وأن احتال في فراق زوجي ثم تتزوج بي فإذا جمعنا المال كله على بعضه فيصير بأيدينا فقال لها جاره: أنا أخاف أن يطغيك الشيطان فتأخذي غيري، فإن الذهب في المنزل كالشمس في الدنيا والرأي السديد أن يكون المال كله عندي لتحرصي أنت على الخلاص من زوجك والإتيان إلي، فقالت له: إني أيضاً أخاف كما تخاف أنت ولا أسلم إليك نصيبي من هذا المال فإني أنا التي قد دللتك عليه، فلما سمع هذا الكلام دعاه البغي والطمع إلى قتلها، فقتلها وألقاها في موضع الكنز، فأدركه النهار فأعاقه عن مداراتها ودفنها فحمل المال وخرج، فاستيقظ الطحان من النوم فلم يجد زوجته فدخل إلى الطاحون وعلّق حماره في الطاحون وصاح عليه فمشى ووقف فضربه الطحان ضرباً شديداً وكلما ضربه يتأخر لأنه قد جفل من الميتة وصار لا يمكنه التقدم، كل ذلك والطحان لا يدري ما سبب توقف الحمار فأخذ سكيناً ونخسه نخساً كثيراً فلم ينتقل من موضعه، فغضب منه وطعنه بها في خاصرتيه فسقط الحمار ميتاً، فلما طلع النهار رأى الطحان الحمار ميتاً وزوجته ميتة ووجدها في موضع الكنز فاشتد غيظه على ذهاب الكنز وهلاك زوجته والحمار، فهذا كله من إظهار سره لزوجته وعدم كتمانه له. التعامل مع الأسرار حفظ الأسرار هي إحدى الصفات المهمة جدًا في الشخصية المحبوبة لدى الآخرين، فالكثير منا في هذا العصر يسعى لأن يكون شخصًا يعتمد عليه في حفظ الأسرار وعدم إفشائها كما كان عليه جيل الأمس الذي ضرب أروع الأمثلة في ذلك، فنحن في عصر نحب أن نعرف الأشياء التي لا يعرفها الآخرون، ونشعر بالفضول ونشعر بالارتياح إذا تعرفنا على أسرار الغير، ولكن الكثير من الناس لا يعرفون التحكم في حفظ الأسرار، بل إن البعض يشعرون بإثارة كبيرة في إخبار الآخرين بالأسرار، لذلك ينبغي على المسلم أن يحفظ سره فلا يضيق به صدره وأن يخفيه حتى عن أقرب صديق فقد ينكر الصديق صحبته ويفشي سره فقد قال المثل (احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة.. فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة)، كما ينبغي للمرء أن يحفظ سر إخوانه الذين وثقوا به فجعلوه موضع أماناتهم ومستودع أسرارهم، ومن حفظ سر الناس حفظوا سره ومن أفشاه وجد من يفشي سره فالجزاء من جنس العمل. بساطة العيش قديماً لم تخفِ القيم في التعامل بين الناس إفشاء أسرار الناس فيما بينهم وعلى وسائل التواصل سمة سيئة كان الجار يحفظ ما ائتمنه عليه جاره طوال حياته أسرار زمان لا تتجاوز صاحبها ومن يؤتمن عليه في الحاره