هل الرسم على طريقة الإفرنج كُفر وخرق لإحدى العقائد الإسلامية؟ ومضاهاة لخلق الله؟ إذ انتقل الرسم في أوروبا في مرحلة عصر التنوير لمرحلة جديدة توفي البعد الثالث في الرسومات على الورق حقه وتجعل منظور النقاش حاضراً في الرسم، وهو ما لم يكن مقبولاً في الثقافة الشرقية الإسلامية إذ إن جميع المنقوشات يجب أن تكون من منظور عُلوي يمثل النظرة العليا والكاملة للخالق ولذلك تظهر جميع مكونات الرسم بحجم واحد كنقش ثنائي الأبعاد وذات أهمية متساوية للمنظور الأعلى الكامل.. تقمُّص الروائي لعدة شخصيات تتحرك داخل حبكة ونص روائي هو تستّر شكلي يبطّن وراءه تجربة حياتية للروائي ذاته أو جزءاً منها، بعضاً من أفكاره وقيمه، أو جزءاً من حالة وجودية يعيشها، فهو إذ لا يكتب سيرته في قالب روائي وبشكل صريح لكنه يخلق نصاً لا مناص من ألا يعكس صانعه وخالقه. ورواية "اسمي أحمر" للروائي التركي والحائز على جائزة نوبل عام 2006 أورهان باموق والمترجمة بواسطة عبدالقادر عبداللي مثال جلي على هذه الظاهرة، حيث تتخذ الرواية من ثنائية الشرق والغرب وما فيهما من تصادم فكري وثقافي موضوعاً وثيمة، تعكس الحالة الوجودية التي يعيشها باموق كفرد يعيش في منطقة جغرافية وسطى بين ثقافتين متصارعتين، وهي مسقط رأسه إسطنبول، المدينة التي تجمع الخلفية الإسلامية وتاريخ الثقافة العثمانية، في مقابل الثقافة الأوروبية الغربية ذات النزعة العلمانية والحداثية وما بعدها. "اسمي أحمر" هي رواية تاريخية بوليسية تتخذ من الفن موضوعاً لصراع أزلي بين ثقافتي الشرق والغرب، تدور أحداثها في دكاكين النقش قبل الألفية الهجرية بعام واحد (999 ه)، في أزقة الدولة العثمانية -إسطنبول تحديداً- ومن خلال هذا الفن العثماني القديم ذي الأصول الفارسية والهندية، فن المنمنمات (والذي هو عبارة عن رسومات وزخارف ضمن مخطوط) يبرز صراع بين نقاشي الشرق والطريقة التي "أسلموا" بها فنهم، وبين رسامي الغرب وطريقتهم التي ازدهرت في عصر النهضة التي تعزز الواقعية عبر إيفاء الأبعاد الثلاثة في الرسم وتوظيف تقنيات المنظور، وهذا الاختلاف والصراع البارد بين الثقافتين هو ما يحرك الرواية شكلياً وموضوعاتياً وحتى بنيوياً، فعبر هذه الثنائية تتفرع الروايات لموضوعات مختلفة متعلقة بالفن والنقش والدين وغيرها. تبدأ الرواية والعقدة البوليسية في أوجها، حيث يتحدث المقتول عن قاتله، متمنياً أن يتم القبض على الجاني سريعاً، ثم تتكشف الأسباب وراء موته وهي ذات علاقة بكتاب كان يعمل عليه برفقة أبرز نقاشي إسطنبول ليُهدى إلى السلطان في السنة الألفية الهجرية، وأن سبب تردده -المقتول- فيما كانوا يقومون به وشكوكه حول كفرية هذا العمل أدى لتصفيته. هل الرسم على طريقة الإفرنج كُفر وخرق لإحدى العقائد الإسلامية؟ ومضاهاة لخلق الله؟ إذ انتقل الرسم في أوروبا في مرحلة عصر التنوير لمرحلة جديدة توفي البعد الثالث في الرسومات على الورق حقه وتجعل منظور النقاش حاضراً في الرسم، وهو ما لم يكن مقبولاً في الثقافة الشرقية الإسلامية إذ إن جميع المنقوشات يجب أن تكون من منظور عُلوي يمثل النظرة العليا والكاملة للخالق ولذلك تظهر جميع مكونات الرسم بحجم واحد كنقش ثنائي الأبعاد وذات أهمية متساوية للمنظور الأعلى الكامل، بل حتى وجود أسلوب للنقاش يعتبر عيباً، وهذا العيب هو ذو بُعد فلسفي عقائدي أكثر منه فني. وفِي هذا تبرز ركيزتان رئيستان بين الثقافتين. الأولى متعلقة بالزهد والتذلل للفرد الشرقي فيما يتعلق بذاته، فهو عبر خضوعه للذات العليا الإلهية يشعر بالسمو بحكم العلاقة التي تربطه بهذه الذات الكاملة، لأنهما ذاتان متقابلتان تكتسب الأولى كمالها عبر علوها وإحاطتها بكل شيء وتكتسب الأخرى كمالها عبر الاقتراب لقصورها ومحدوديتها اللتان تعبران عن حقيقتهما. بينما الثقافة الغربية هي ذات نزعة فردانية تؤكد على حضور ذات الفرد وما يراه هو من منظوره، وأهمية تقديم معطياته الخاصة فيه من زاويته هو، وذلك ما يسبب إشكالاً في الثقافة الشرقية وكأن الفرد يحاول أن يزاحم من هو أحق بذلك والتجرد من حقيقته التي أرادتها الذات العليا له. أما النقطة الأخرى فهي متعلقة بكلاسيكية الفن الشرقي من حيث محاكاة الأعمال السابقة، فهي -الثقافة الشرقية- ذات نزعة ترتكز دائماً على الموروث لما فيه من عراقة وتراكم وزخم أكبر من أن يُتجاوز أو يُتجاهل، وهي لعراقتها وتراكم بنائها المتين والشاهق تُغَطى بقدسية لا يجب المساس بها، وكلما كانت الأعمال الفنية مقاربة في محاكاتها لأعمال المعلمين القدامى كانت ذات قيمة فنية أعلى، في حين تكون الثقافة الغربية في عصر النهضة تحديداً ذات طابع تجديدي يتحدى السائد والمعتاد، مُكابر، ودائماً ما يحاول كسر قيود المألوف وما كان سائداً في السابق. ما يستحق الإشارة إليه في "اسمي أحمر" هو ظهور المنظور داخل موضوع فني ذي أبعاد ثقافية عقائدية وفلسفية في تلك الحقبة، وتناولها لهذا الموضوع في سياقها الزمني دون انحياز لأفكار الحاضر، ومحاولة تفكيك مفهوم الفن الحقيقي إن كان يجب أن يكون محاكاة لأعمال سابقة أم خلقاً وإبداعاً جديداً، وإن كان الفن تجلياً لحقيقة المرسوم أم تعرياً لحقيقة صانعه. أيضاً في الوقت نفسه ظهور المنظور كتقنية أدبية روائية استخدمها باموق في أسلوبه السردي، حيث تتوزع الرواية في فصول كثيرة تُروى من مناظير وزوايا نظر متعددة ومختلفة، ففي الرواية الكل يحكي ويسرد من وجهة نظره هو، وهنا تمكن باموق أيضاً من استنطاق الجماد والمرسومات لتشارك بإبداء رأيها في هذا الموضوع الفني العميق بشكل غير مباشر، وبأسلوب إبداعي يبرز فيه قدرته السردية. هناك تشابه بين هذه الرواية ورواية "اسم الوردة" للروائي والفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو ليس فقط في عنوانَي الروايتين بل من حيث موسوعية الرواية أيضاً، فكما استطاع إيكو من إبراز عضلاته المعرفية فيما يتعلق بفنون القرون الوسطى في أوروبا والتفاصيل الدقيقة في الزخارف والشروحات الفنية المتعلقة بها، استطاع باموق أيضاً الإسهاب في تفاصيل فنية دقيقة وكثيرة متعلقة بالنقش والفن الإسلامي الشرقي، إلا أن باموق في رأيي استطاع موضعة وتوظيف هذه التفاصيل في اشتغاله الموضوعاتي في الرواية بشكل أفضل يتجاوز مجرد الإعجاب لإلمامه بهذا الكم الهائل من المعلومات الموسوعية. ختاماً، تضعنا هذه الرواية أمام أحد أبرز الكتاب والروائيين المعاصرين، والذي بلا شك يساهم في الارتقاء بهذا الجنس الأدبي والإضافة للقيمة الأدبية إجمالاً وتشكيل هوية جمالية عالمية ينتمي لها الجميع.