معركة طويلة خاضتها اللغة العربية في سبيل تسجيل حضورها في سجل اللغات العالمية الحية، معركة كان مسرحها الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي حددت يوم 18 ديسمبر كل عام يومًا عالميًا للغة العربية.. في وقت سابق أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190، قضت بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأممالمتحدة بعد اقتراح قدمته المملكة العربية السعودية ومملكة المغرب خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو وبعد جهود بذلت منذ خمسينيات القرن الماضي، أسفرت عن صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 878 الدورة التاسعة المؤرخ في 4 ديسمبر 1954، يجيز الترجمة التحريرية فقط إلى اللغة العربية، ويقيد عدد صفحات ذلك بأربعة آلاف صفحة في السنة، وشرط أن تدفع الدولة التي تطلبها تكاليف الترجمة، وعلى أن تكون هذه الوثائق ذات طبيعة سياسية أو قانونية تهم المنطقة العربية. واستمر الضغط الدبلوماسي العربي، والذي برز فيه دول المملكتين بالتعاون مع بعض الدول العربية الأخرى، إلى أن تمكنوا من جعل العربية تُستعمل كلغة شفوية خلال انعقاد دورات الجمعية العامة في سبتمبر 1973، وبعد إصدار جامعة الدول العربية في دورتها الستين قرارا يقضي بجعل اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة وباقي هيئاتها، ترتب عنه صدور قرار الجمعية العامة رقم 3190 خلال الدورة 28 في ديسمبر 1973 يوصي بجعل اللغة العربية لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها والتي تعد من أقدم اللغات السامية، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم، ويتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة.. في كل عام وعند حلول مناسبة اليوم العالمي للغة العربية، ترتفع الأصوات الناعية لحال اللغة العربية الراهن، ويذهب كثيرون إلى تحديد المهددات التي تناوش العربية من كل جانب، وتكثر الانتقادات لوسائل الإعلام والمناهج الدراسية، وطرق إيصال اللغة العربية، وكل النوافذ المهتمة بها، وتقام الفعاليات هنا وهناك.. ليبقى السؤال الذي مضى طرحه في كل الأعوام السابقة، ونضمن طرحه في الأعوام المقبلة، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، ومفاده: ثم ماذا بعد الاحتفالية بهذا اليوم.. كيف السبيل إلى تقديم جهود تجعل اللغة العربية لغة عالمية بحق، مشاركة فيه ومتفاعلة بحيوية.. وليست لغة في ذاكرة الحضارة فقط.. جملة من آراء مثقفين حول هذا الموضوع في سياق هذا الاستطلاع المتسائل عما ماذا بعد الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية.. خيارات لدعم اللغة يبتدر الحديث الروائي يوسف المحيميد بقوله: في البدء ولكيلا نكون متشائمين علينا أن نؤمن بأن هذا اليوم وتحديده على المستوى العالمي والاهتمام بما خصص له اليوم هو أمر مهم إلى حد كبير؛ لكن علينا أيضًا أن نؤمن أنه لا يكفي للاهتمام باللغة العربية، فكما نعرف أن اللغة العربية ما يدعمها بالدرجة الأولى عبر الخيارات التقليدية المتعارف هو وجود المجمع اللغوي في الكثير من العواصم العربية، بالإضافة إلى ذلك تعزيز اللغة العربية وجعلها سواء على مستوى أبناء أو دول هذه اللغة، أو حتى محاولة فرضها كلغة في مختلف أنحاء العالم، ونحن ندرك بالطبع أن اللغات التي تفرض نفسها على العالم هي لغات الأقوياء، فالدول التي تمتلك قدرات اقتصادية وعسكرية وتقنية وابتكارية تستطيع أن تنهض بلغاتها، كالانجليزية وبعض اللغات الأوروبية، ومؤخرا اللغة الصينية التي أيضًا أصبحت حاضرة وبقوة حتى في دولة عظمى في حجم الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويجب أن نؤمن أن الاهتمام باللغة وفرضها على مستوى العالم يأتي من هذه الخطوة حينما نستطيع أن نتوازن، وأن نصبح أقوياء اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، عند ذلك سوف تصبح للغتنا العربية أهميتها. ويتابع المحيميد حديثه مضيفًا: على المستوى الثقافي أعتقد أن تخصيص يوم للغة العربية كل عام هو أمر جيد على ألا يتجاوز أن يكون يومًا مذكرًا في اهتمامنا باللغة العربية، أيضًا من الأشياء التي من الممكن أن نتحدث عنها كي نعزز اللغة العربية لأبناء اللغة العربية هي استخدامها، لأن اللهجات أصبحت هي الدارجة، والبديل عن اللغة إذ أصبحت هي الأكثر حضورًا في مختلف أنحاء العالم العربي، ولعل هذه اللهجات فرضت نفسها، ليس عن طريق الكتابة بحكم أن من يقف في الصفوف الأمامية هي الدراما أو ثقافة الصورة والأعمال المرئية، فحينما تحضر اللهجات العامية في المسلسلات وفي الأفلام وفي الرسوم المتحركة تصبح هي التي تقود، والتي تنشئ أجيالا من أجيال أبناء هذه اللغة. وأنا اعتقد أن ما تحقق قديما ربما في الثمانينيات في عاصمة مهمة في الثقافة العربية مثل بيروت عبر دبلجة الكثير من الأفلام والرسوم المتحركة للأطفال بلغة عربية فصحى سليمة استطاعت في نظري أن تعزز اللغة العربية لدى النشء أكثر مما تفعله المقررات المدرسية، لأن الإنصات لهؤلاء الأطفال حتى في سن ما قبل المدرسة يجعل هؤلاء قادرين على ضبط لغتهم وحركات هذه اللغة ومفرداتها. غراب يقلد حمامة وعلى خلاف رؤية المحيميد لا يرى الروائي الدكتور سلطان القحطاني في تحديد يوم للعربية من فائدة ترجى، ويعمق ذلك بقوله: مسألة الأيام ومنذ زمن ولي بعض التحفظات عليها كيوم المرور ويوم المرأة ويوم الطفل ما جعلها شعارات جوفاء ليس لها أي مردود آخر، هو يوم فقط كسائر الأيام يذهب بخيره وشره، ولا يمكن أن يستفاد منه، فما بالنا باللغة العربية لغتنا وتراثنا ولغة ديننا وهويتنا التي كأي هوية عالمية ولغة أخرى لأي فئة من الناس ينطقون بها. إننا نحتفل بهذا اليوم، ماذا نحتفل به؟ نحن يجب أن تكون لدينا عقود للغة العربية، وكل هذه ليست بحلول للغة العربية إنما تكمن الحلول في مناهجنا المتردية وفي جامعاتنا التي أصبحت لا تحمل من الجامعات إلا اللوحات الموجودة عليها، والكليات في مناهج مقررة وفي رداءة في هيئات التدريس وفي عينات الطلاب وفي القبول وفي المخرجات التي تخرج من الجامعة وكأنها للأسف الشديد لم تدخل جامعة ولم تدخل أقسام لغة عربية، والأخطاء اللغوية والإملائية والأسلوبية والتحدث ومظهر معلم المدرسة ومظهر الذي يسمي نفسه مثقفا وهو خريج يحمل شهادات جامعة. ويتابع القحطاني حديثه في كشف الواقع حسب رؤيته مضيفًا: وللأسف الشديد حتى من الدرجات العليا عندما تأتينا بعض البحوث إما للنشر وإما للإجازة وإما للمناقشة ننشغل عن المادة بتصحيح ما فيها من الأخطاء اللغوية، وبين يدي الآن مجموعة من البحوث للأسف الشديد لا أنظر إلا أن أصححها وفي أشياء بديهية ليس فيها خلاف كمواضع الهمزة أو علامات الإعراب وما إلى ذلك وهذا لا يحله مسألة يوم أو هيئة ولا منهج إنما يحله الاهتمام باللغة نفسها وألا ننهزم وألا نستحي من لغتنا إذ أصبحنا نستحي من لغتنا ولذلك يجب علينا أن نعتز بلغتنا وبأصولنا لأنه لا شيء لنا غيرها كل له لغته وثقافته ونحن لدينا لغتنا وثقافتنا التي بدأنا نهمل فيها ونقلد الآخرين ولا نعرف أن نقلد حتى أننا أدرجنا بعض المصطلحات التي لا نعرف معناها ولا منشأها ك» أوكي» فأصبحنا كالغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحمامة فأضاع المشيتين. خطوة في الطريق الصحيح ويقف الدكتور محمد خضر عريف في مسافة بعيدة عن رؤية القحطاني «التشاؤمية» وقريبًا من رؤية المحيميد المتفائلة، قائلًا: منذ سنوات قلائل أقر هذا اليوم عالميًا ليكون اليوم العالمي للغة العربية، وقد شهدنا مجموعة من الفعاليات داخل المملكة وخارجها إحياء لهذا اليوم، وقد يذهب البعض إلى أن تخصيص يوم واحد لهذه اللغة العظيمة وهذه اللغة الخالدة ليس أمرا كافيًا، ولكن على الأقل اعتقد أنه إنجاز أو خطوة في الطريق الصحيح والطويل لإعطاء هذه اللغة الخالدة حقها من التكريم بعد أن هجرها أهلها أكثر مما هجرها غير أهلها، فقد أصبحت هذه اللغة غريبة عند أهلها أكثر من سواهم مع الأسف الشديد، وعلى كل الأحوال يمكن أن تستمر هذه الفعاليات في الجامعات والنوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية العربية بشكل عام لوضع بعض التصورات والتوصيات وإقامة بعض الفعاليات التي يمكن على الأقل أن تجعل العربي متذكرا للغته التي نسيها وأعرض عنها وهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة. ويضيف عريف: قبل سنتين أو ثلاث شاركت في احتفالية كبيرة أقامها المجلس العالمي للغة العربية في بيروت بلبنان وكانت مناسبة جيدة وشهدت هذه الاحتفالية تقديم الكثير من البحوث العلمية التي مازلت أحتفظ بها لأنها طبعت في ستة مجلدات ضخام وأدلى كثير من علماء هذه اللغة بدلوهم في كيفية الارتقاء بها وخدمتها وملخص ما جاء في هذه البحوث أن اللغة العربية الآن في خطر وهذا أمر صحيح ولا شك في هذا كما أن هذه البحوث أوصت بالاهتمام بشكل أكبر باللغة العربية لأن أهل اللغات الأخرى قدموا لها ما لم نقدمه للغتنا الشريفة، وعليه فأنا لا أقول ان هذا اليوم هو قليل في حقها وإن كان هو قليل في الواقع، ولكن أقول انه خطوة في الاتجاه الصحيح وعلى الأقل تنبهنا في كل عام إلى النظر فيما يحيط بهذه اللغة من أخطار وما يجبه أن نقدمه تجاهها ويمكن أن تسهم في هذا اليوم المؤسسات الثقافية العربية المختلفة والجامعات والأندية الأدبية كما أسلفت، وأتمنى أن نرى في هذا العام كما رأينا في أعوام سابقة زخما من الفعاليات والأنشطة التي تصب كلها في خدمة هذه اللغة الشريفة. استثمار وحلول ويشارك الدكتور أحمد محمد الضبيب بقوله: إن اليوم العالمي للغة العربية هو يوم سنوي لتذكير العالم في جميع أقطاره بأهمية اللغة العربية وكونها إحدى اللغات العالمية التي ينطقها ويكتب بها أكثر من 400 مليون نسمة إلى جانب كونها إحدى اللغات الحية الأكثر عراقة وامتدادًا حضاريًا وإسهامًا فاعلًا في مسيرة الحضارة الإنسانية، غير أن العرب يعرفون ذلك لأنهم ينظرون إلى لغتنا على أنها لغة مستقبل لمنطقة من أكثر مناطق العالم أهمية استراتيجية وعمقًا حضاريًا، لذلك فإن هذا اليوم في -الأساس- هو يوم موجه لغير أبناء الأمة العربية، وواجب أبناء اللغة العربية أن يكون هذا اليوم العالمي فرصة لهم لإبراز لغتهم للعالم بمحاسنها وتاريخها وإسهاماتها، ومناسبة لترويج العربية والكتابة عنها والدعاية لها وعمل الخطط لزيادة نشرها بين الناس لما في ذلك من فوائد ثقافية واقتصادية وسياسية تعود على العرب جميعا ولزيادة فهم الآخرين للأمة العربية واستجلاء تاريخها وأفكارها ونشر معتقدها والمساعدة على فهمها فهمًا حقيقيًا خاليًا من الصور النمطية المغلوطة التي يكرسها في الأذهان الإعلام الحاقد ضد كل ما هو عربي أو إسلامي. أما أبناء الأمة العربية فإن يومًا واحدًا للاحتفال باللغة ونسيانها بعد ذلك أمر لا يليق بهم بل الواجب أن تكون جميع أيامهم أياما للغة العربية لا لأنها لغتهم التي يتواصلون بها مع أبناء جلدتهم من المحيط إلى الخليج وحسب ولكن لأنها عنوان هويتهم ومصدر عزتهم وكرامتهم، وعنوان تقدمهم ونجاحهم، وسياج وحدتهم الثقافية والحضارية بين الأمم. ويمضي الضبيب في حديثه مؤكدًا على ضرورة السعي إلى تمكين اللغة العربية قائلًا: يجب أن يكون اللغة العربية حاضرة في قلب كل عربي، مغروسة في وجدانه، متعلقًا بها، لأنها وسيلته إلى الرقي، ومهما تعلم الإنسان من لغات أجنبية فإنها لن تكون قادرة على توطين العلم وإشاعته بين الناس كما تستطيع اللغة الأم ولن يستوعب الطالب العلم كما يستوعبه بلغته الأم، وهذا ما سارت عليه جميع شعوب الأرض، ولا يعني هذا الدعوة لعدم تعلم اللغات الأجنبية أو اجتنابها ولكنه يعني إعطاء الأهمية القصوى للغة الأم وبعد ذلك لا مانع من تعلم ما شئنا من لغات.. ويقدم الضبيب صورة لوضع اللغة العربية في هذا العصر بقوله: إن أبناء اللغة العربية لم يعودوا كأسلافهم حريصين على لغتهم، بل أحاطت بهم الهزيمة النفسية كما أحاطت بهم الهزيمة الحضارية فتجنبوا لغتهم وازدروها وافتخروا بغيرها وأساءوا إليها وحاصروها في التعليم والسوق والإعلام، وحاول كثير منهم تهميشها وعدم استعمالها وتزاحموا على المدارس الأجنبية التي دعوها بالعالمية تحسينًا لها وتفخيمًا لمقامها كي يستبدلوا بلغتهم العربية لغة أجنبية يغرسونها في ألسنة أطفالهم وفي قلوبهم منذ نعومة أظفارهم ويغرسون تبعا لذلك ثقافة أجنبية وقيمًا أجنبية يفعلون ذلك وهم يعلمون أو لا يعلمون بأنهم يمسخون أبناءهم مسخًا ويجعلون منهم غرباء عن بيئتهم وثقافتهم وحضارتهم وأمتهم تابعين للآخرين مقلدين لهم حذو القذة بالقذة ظنًّا منهم أن التقدم والنجاح إنما يأتي من هذا الطريق، والحق الذي لا مرية فيه أن الأمم التي تمسكت بلغاتها وانحازت إليها وتعلمت بها وبنت نهضاتها عليها هي الأمم التي كسبت الرهان في سباق التقدم والرقي، وأن الأمم التابعة الخانعة التي اتخذت لغات الأجانب لغات لها وطنية أو تلك التي جعلت اللغات الأجنبية لغاتها الأولى فتحدثت بها وكتبت بها وأصبحت غريبة عن لغاتها الأصلية هي تلك الأمم التي تزحف في آخر الركب الحضاري تلهث وراء الأجنبي وهو لا يعترف بها، يرحب بها تابعة مستهلكة تيسر مرور بضائعه وتسهل استيلاءه على مواردها الأولية كي يصنع من هذه الموارد منتجات تعود إليها بأغلى الأسعار. ويختم الضبيب بطرح حلول للخروج من الوضع الحالي للغة العربية قائلًا: إن الحل في اتباع سياسة لغوية رشيدة تخطط لها في المجتمع وتجعلها فاعلة في البيت والسوق والمدرسة والجامعة والمستشفى والفندق والإدارات والمصالح المختلفة سواء أكانت حكومية أم خاصة لأن من العار أن نهجر لغتنا ونتكلم بالأجنبية فيما بيننا وبخاصة في الاجتماعات الرسمية في بعض الدوائر أو الشركات أو المؤتمرات والندوات ومن المخجل أن تمتلئ شوارعنا بأسماء المحلات التجارية وقد حملت أصنافا من المسميات الأجنبية وكأننا قوم لا لغة لهم بين الأمم ومن المستنكر أن تكون بعض البرامج التلفازية مكتوبة وناطقة باللغات الأجنبية وهي تخاطب عربًا لهم لغة من أروع لغات الأرض، بالتخطيط والعزم الأكيد على إحلال لغتنا محلها اللائق بها في مجتمعنا تكون قد حافظنا على هويتها وديننا وتراثنا العربي العريق واستطعنا أن نبني مستقبلنا على أسس ثابتة قوية.