بين الشعر والمسرح يحضر صالح زمانان بثبات في المشهد الأدبي. وهو الشاعر الذي ترجمت أعماله إلى الإسبانية ولاقت استقبالا مبهجاً. شاعر سعودي يخترق فضاء الشعر في بعده الثقافي والكوني. أما عن المسرح، فلمؤلف «نوستالجيا» أكثر من عشرة نصوص مسرحية منفذة ومتنوعة بين التجريبية والكلاسيكية الملحمية والتاريخية، وهو ما يستدعي الانتباه إلى قدرته الباكرة، في نسج خيط الكتابة ببراعة فنية بين المسرحي والشعري. لهذا سنحاول الاقتراب هنا من تجربة صاحب «العائد من أبيه»، والسياق الذي تشكلت فيه هذه التجربة وهو الحياة الثقافية والأدبية السعودية.. بين الشعر والمسرح يحضر صالح زمانان بثبات في المشهد الأدبي. وهو الشاعر الذي ترجمت أعماله إلى الإسبانية ولاقت استقبالا مبهجاً. شاعر سعودي يخترق فضاء الشعر في بعده الثقافي والكوني. أما عن المسرح، فلمؤلف "نوستالجيا" أكثر من عشرة نصوص مسرحية منفذة ومتنوعة بين التجريبية والكلاسيكية الملحمية والتاريخية، وهو ما يستدعي الانتباه إلى قدرته الباكرة، في نسج خيط الكتابة ببراعة فنية بين المسرحي والشعري. لهذا سنحاول الاقتراب هنا من تجربة صاحب "العائد من أبيه"، والسياق الذي تشكلت فيه هذه التجربة وهو الحياة الثقافية والأدبية السعودية.. «عائد من أبيه» أخذني إلى أسبانيا الفن الجيد لا يجسد التراث *القصيدة الحديثة في السعودية تكمن اليوم في العبور من النخبوي الى الجماهيري..كيف حدث هذا؟ -إذا ما اتفقنا أن هذا العبور المذهل، هو للقصيدة الحداثية الجيدة والعميقة، فأعتقد أنه جاء نتيجةً لثلاثة عوامل رئيسية، أولها يكمن في فنيّات القصيدة الحديثة بالسعودية، التي أصبحت تجاذب فنيّات النص العربي والعالمي الحديث بشكل عام، حيث صارتْ تتناول يوميات الإنسان العادي، وهموم الذات المعاصرة، بعيدًا عن موضوعات العادة السحيقة، وقدّمت نفسها خفيفة من أثواب الكلاسيكية المعهودة والمستهلكة في الفصيح والشعبي، وعابرةً للرمزية دون الغرق فيها، مع استحداث لغة وصور عميقة تتسق مع حياة الجماهير ومعرفته وموجودات عصره. أما العامل الآخر، فأظنه تحوّل الجمهور السعودي نفسه، وارتفاع ذائقته، وانفتاحه على الفنون والآداب وأسباب الحياة الحديثة؛ حتى صار المتابع الرصين والصادق يعتقد بأن مصطلح "النخبة" في المملكة صار يضم جسماً هائلاً من مثقفي الظل والهدوء، الذين يتداولون الجمال بعيدا عن الإعلام. فلا شك أن قرّاء ومتذوقي القصيدة الحديثة ازدادوا مع هذه التحولات الصاعدة. في حين تأتي مصادر التلقي اللانهائية، اليوم، عاملاً ثالثاً لهذا العبور، فقد استطاعت القصيدة الحديثة أن تتكيف مع تعدد المنصات والمواقع المفتوحة أمام الجماهير وفي أيديهم، وأن تستخدم الفنون الموسيقية والضوئية والتشكيلية في تقديم نفسها كحالة مدهشة ومعاصرة، حيث تتشابك القصيدة الحديثة مع بقية الفنون المعاصرة أكثر من غيرها. فنعم.. القصيدة الحديثة لم تجلس في صالون الانتظار القديم، بل كما لو كانت في نُزهة، ذهبتْ لشارع الناس الكبير.. الشارع الإلكتروني. * كانت سمة الجيل السابق للشعر دخوله صراع الحداثة، مع القديم. في أي مستوى يكمن الصراع بالنسبة لجيل شعر اليوم؟ * قد يكون صراع الجيل الشعري المعاصر، هو نتيجة للصراع السابق، الذي كان بين الحداثيين وغيرهم، بين المنادي بأسباب الحياة المعاصرة ، وبين الرافض له. لقد أنتج ذلك الصراع ميراثاً قاسياً على أهل الشعر والحداثة. ودروبهم الشائكة ستكون بين محاولة تشكيل ملامح جديدة للهوية، وبين محاولة استرداد المطموس والملغي منها، واسترجاع مخيّلة المجتمع الخلاّبة، والمنسيّة. *لديك كاركتر خاص في الإلقاء، حيث لغة الجسد حاضرة بقوة، مع مسحة من اللهجة المحلية تظهر في بعض مفردات القصيدة.. لو تحدثنا عن قراءة الشعر بالنسبة لك؟ -قد تستغرب لو اعترفت لك بأن قراءة الشعر بالنسبة لي، هي حتفٌ من الحتوف، ولستُ أحب إلقاء الشعر إلا لأصدقائي، وهذا أحرجني أكثر من مرة، حيث أكون أقلّ شاعر يقرأ في الأمسيات، وأسرع من ينتهي في القراءات المشتركة، ولكني أصاب بشعور غريب، لا أختبره في أي موقف غير قراءة الشعر، يجعل مني شخصاً مختلفاً تماماً. وذلك الشخص الذي يلقي القصيدة بطريقة قد تراها ذات لغة جسدية عالية، أو تظهر موسيقى لهجتها المحليّة، ربما أثّرت عليه مرجعيته المسرحية، أو محبته الجارفة لأمّه وأهله ومنابته الأصيلة. لا أدري بالضبط. ولن أجزم على تعليل ما. لكني لم أتعمد إلقاءً، ولم أخطط، ولم أتجهّز لأي أمسية أقمتها. *وماذا عن قراءة الشعر لغير العرب، أثناء مشاركاتك في المهرجانات الشعرية الدولية؟ في المهرجانات الدولية خارج العالم العربي، فإني أقرأ بلغتي مفتخرًا، وكما لو كنتُ أمام جمهور عربي، إلاّ أني ابتهج من ردة فعل الناس، وهو يستمعون للعربية الفارهة، والصعبة، قبل أن انتهي من النص، وأحيلهم إلى الذي سيقرأ بعدي ذات النص مترجماً للغة الجمهور. *في مجموعتك الشعرية "عائدٌ من أبيه" تجاوزتَ بنجاح "العاطفي" المكرّس في الأحوال المعتادة بين الرجل والمرأة، وذهبت إلى عواطف جديدة صنعتَها للقطارات، والأشجار، والمياه..لو نتوقف لفهم هذا الأفق الشعري الذي تشتغل عليه؟ -أعظم أفقٍ قد يتسع لشاعرٍ أو كاتبٍ أو فنان، هو شعوره بكينونته، وبأنّ علاقة ما تربطه بكل شيء في هذا الكون، مهما كان ذلك الشيء. إننا نأتي من سلالة كانت تؤمن بهذا، وتعيه؛ فتسمي إبلها، وأغنامها، ونخلها، بأسماء مثلما يُسمى البشر، وترحم كل الكائنات، وتُوصم بالعيب من يحتطب الشجرة الخضراء. إنّ قيمة الإنسان تعلو في استشعار كل هؤلاء الشركاء في الوجود، وأظن أنّ الشعر كذلك. وهل هذا الأفق الشعري "الكوني" كان سبباً في انتشار كتابك المترجم إلى الإسبانية؟ -لا شك أن تلك الأجواء في "عائد من أبيه" ساعدت كثيراً في ترجمتها، ونقلها إلى لغة أخرى، حيث يتشارك الناس جميعاً في فهم تلك المعاني، وتلقيها، والتعاطف معها. وقد حظيت المجموعة المترجمة للإسبانية التي كانت بعنوان "رأسه في الفجيعة.. أصابعه في الضحك" والتي كان أغلب نصوصها من "عائد من أبيه"، بقبولٍ جيد، فبعد أن كانت الأكثر مبيعاً في مهرجان الشعر العالمي بكوستاريكا، الذي يغطي أغلب مدن الدولة، تلقى الكتاب قراءات نقدية في إسبانيا، سيكون آخرها في غرناطة شهر نوفمبر المقبل. *يتقاسم الشعر والمسرح جل نتاجك الإبداعي، لكنهما نوعان متباينان فنيا، كيف ترى تجربة الجمع بينهما؟ -في البدء.. وُلد المسرح كابن شرعي ووسيم للشعر، أيام الاغريق، واستمر المسرح مع الشعر قروناً طويلة، حتى جاء الواقعيون بإزاحة الغنائية من المسرح، وتحريره لينمو بطريقته الخالصة. ولعل آخر علاقة تبيّن للجماهير أنهما عائلة واحدة، وأن أحدهما من سلالة الآخر، كانت على يد الشاعر والمسرحي الإنجليزي ت. س. إليوت، عندما كتب مسرحية "الصخرة" عام 1934م، فما كان بعدها إلا التجليات الكبرى لعصر الحداثة في الفنون والآداب، التي جعلت المسرح ينفرد بذاته ويبدأ فصول المدارس المسرحية الخالصة، حيث تبنّتْ نظريات تخصُّ المسرح وتفاصيله بعيداً عن الاهتمام بماهية الشعر ونقده. لكن تلك النشوة المشتركة بين الشعر والمسرح، وذلك التقاطع الرفيع، والعميق، ظلّ حاضرًا في تجارب مضيئة جمعت في سيرتها بين كتابة الشعر والمسرحيات، سواءً على مستوى العالم مثل تجربة الإسباني الأشهر لوركا، أو في أقاليمنا العربية كتجربة الماغوط، وصلاح عبدالصبور، وغيرهم الكثير. أما أنا فغارق في محبة الاثنين، قراءة وكتابة ومتابعة. إني أراهما معًا مشروعاً واحداً، تجسّدا من شغفي بهما، ومن ذلك المشترك اللاذع بينهما، فكأن الشعر الزمان والمسرح المكان، فكيف القطيعة؟! بل إني اكتشفتُ أخيرًا عبر آراء النقاد والقراء والأصدقاء أن كلاً منهما رفد الآخر فيما كتبت دون أن أشعر، فقد تأتي الفكرة الشاعرة نافرة بالحركة المسرحية، وقد يندلع المونولوج المسرحي من ليل القصيدة ولغتها ورمزيتها. *كتبت مسرحيات تاريخية، ك "سُراة الشعر والكهولة" و"ملحمة الأخدود" و"ملوك الشعر والدماء" و"مأساة الصعاليك"، كيف تنظر لمسألة "استعادة" التاريخ، مسرحياً؟ -أعتقد اعتقاداً أصيلاً أن الفن الجيد لا يتناول التراث أو التاريخ لتجسيده، بل ليعيد تحريره.على الفن أن يطنب عند جماليات التراث الهائلة، التي تعرضت للنقيصة والسهو، فينبشها، ويضعها في حلة جديدة كتعبير عن الحضارة وتاريخها الآسر،. ولعل جزيرة العرب بكل أزمنتها، السحيقة والحديثة، هي سلسلة حضارية عظيمة وعالمية، محشودة بعجائب القصص والشخصيات والأساطير، وما زالت حتى اليوم بِكراً أمام الفنون اللاهية خلف المستهلك والسريع، والمكرر الساذج. أما ما كتبتُ من مسرحيات تاريخية، فليست إلاّ محاولات لمجاذبة بعضٍ يسير من هذا الإرث العربي الباهر. وما زلتُ أؤمن -على وجه الخصوص- أنّ بُنى وروح الأسطورة النابتة في جزيرة العرب تمتلك جمالاً أخاذًا وخاصًا ومنفردًا، وجديرة بأن تُبعث فناً.. سواءً في المسرح أو في الأفلام أو التلفزيون، وحتى على مستوى الشعر والرواية والقصة. متمنيًا ظهور جيل من الكتّاب والكاتبات يهضمون هذه المحطات المذهلة في تراثنا المديد، ثم يصنعون منها مختبرًا للكتابة الحديثة، علّه يفرز تجربة جديدة، أو يشكّل هوية حضارية عميقة تتسق مع هذا الوطن الضارب في الحضارة والعروبة والتاريخ. *أعرف أنك تشتغل على تجربة شعرية جديدة.. تمس قلق الإنسان المعاصر في زمن الحروب والعنف، لو تحدثّنا عنها؟ -هذا صحيح، ويبدو أني على مشارف الانتهاء منها، وتصديرها للنشر. وهي مختلفة قليلاً عن "عائد من أبيه"، حيث تحاول في جزء منها بثّ أسئلة الإنسان المقهور، في طقوس المهانة وأرضيّات الحروب والموت الرخيص. في حين تتناول أجزاء أخرى منها تفاصيل ونتوءات في الهامش اليومي، الذي يشكّل مساحات شاسعة، وبعيدة عن اضاءات الشمس والكلام والمصابيح في حياتنا العابرة. صالح زمانان الكتاب الشعري الأبرز لزمانان