بلغة متوهجة حية تخلع عن القصيدة عباءة المتكلس والمكرور وتجعلها مشروعا مفتوحا على تجربة الذات وأسئلتها الحارقة إزاء الموت والفقد والمصير، صدرت مؤخرا عن دار مسكيلياني للنشر بتونس ودار طوى بلندن للمسرحي والشاعر السعودي صالح زمانان مجموعة شعرية جديدة موسومة بعنوان «عائد من أبيه». وتندرج هذه المجموعة ضمن رؤية إبداعية ما انفك الكاتب يرسم ملامحها عبر أشكال تعبيرية مختلفة ليس الشعر سوى وجه من وجوهها، رؤية قوامها الإعلاء من الهامشي والهجين في مواجهة الأجناس الأدبية الصافية والأحكام النقدية المعيارية التي تحدد مواصفات ثابتة جاهزة لكل ضرب من ضروب الفن والإبداع، لذلك فإن الكتابة عند زمانان كتابة مراوغة عابثة تحول كل شيء إلى مادة للعب، مسرحي يضرب عرض الحائط بمقولات المسرح التقليدي ويهاجر بالنص إلى أقصى حدود الشعر دون الذوبان فيه والخروج من أرض المسرح، وشاعر يعدل بقصيدة النثر عن سماتها التأسيسية الأولى؛ مثل التكثيف والمجانية ويذهب بها إلى أقصى حدود السرد دون الوقوع في شراكه، وهو ما عبر عنه الكاتب في عمله المسرحي «الحارس في الثقب» منذ العتبة الأولى بحكاية الماغوط حين كتب قصيدة طويلة قرأتها سنية صالح فرأتها أعلق بالمسرح، فما كان من الشاعر إلا إضافة فصل إلى قصيدته لتصبح مسرحية. إن هذه الرؤية هي التي جعلتنا نسم الكتابة الشعرية في «عائد من أبيه» بالكتابة على الحد، أي المنطقة الفاصلة بين جنس أدبي وآخر، فالقصيدة تتخفف من الإرث البلاغي الاستعاري الذي ظل يتحكم في الشعرية العربية وتنحت شعريتها الخاصة بوصفها عالما لا بوصفها جملة من الأبيات المرصوفة: «اكتب وصيتك لمن تحب لا تتركه حائرا في ملذات غيابك النهائي فالموت يترصد المارة وشارع الحياة ليس بآمن» تبدأ القصيدة تقريرية بسيطة متخففة من الصور والرموز محرجة لعاداتنا في التلقي حتى إن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا مباشرة، نحن المثقلين بقراءة المعلقات وعيون الشعر القديم، أين يكمن الشعر في هذا الكلام؟ ولكن الإجابة سرعان ما تأتي متوهجة حارقة: «كن منفتحا كن منفتحا في نزل العدم واعلم أن القبر ليس غرفة لتبديل الملابس لكنه أول الدرب في نزهتك الأبدية!» هكذا يعبث بنا الكاتب ويسخر من عاداتنا في تلقي الشعر، فالقصيدة ليست صورة في بيت بل عالم، ليست مجرد إطراب بل دعوة إلى التأمل في أسئلة الزمن والموت والمصير. تبدأ القصيدة حين تنتهي لتظل حاضرة فينا، مشوشة لما استقر في ذاكرتنا، وتلك سمة الكتابة في نصوص المسرحي الشعرية في هذه المجموعة، وفي نصوص الشاعر المسرحية في أعماله الأخرى.