زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- إلى روسيا كانت تاريخية بجميع المقاييس، فالزيارة وهي الأولى لعاهل سعودي منذ إنشاء المملكة وإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل 85 عامًا، عكست المكانة السامية للمملكة كقائدة للعالم الإسلامي وضامنة للسلام العالمي، كما أكدت على النهج الجديد في السياسة الخارجية للمملكة؛ وهو تنويع سلة تحالفاتها وصداقاتها مع دول العالم المؤثرة بعيدًا عن تركة صراعات المحاور والحرب الباردة. لقد بني هذا النهج على قراءة استشرافية للوضع العالمي والإقليمي وللعبة المصالح التي تحكمه، خاصة وقد أصبح من الواضح أن روسيا، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، أثبتت أنها قوة يمكن الركون إليها وأنها مستعدة للذهاب إلى أبعد مدى في الحفاظ على أمنها ومصالحها في الوقت الذي تعاني فيه الولاياتالمتحدة وحلف النيتو حالة من الارتباك والتخبط. ضمن هذه الرؤية، حددت المملكة مواقفها في التعامل مع الدول الكبرى، ولأنها تعرف حدود الممكن والمستحيل، أخذت القيادة السعودية تتعامل مع الحقائق على أرض الواقع من دون التنازل عن المبادئ. وضمن هذا المنظور البراغماتي، وفي الاجتماع الموسع مع الجانب الروسي، بعث الملك سلمان برسائل مهمة لأطراف كثيرة وهي رسائل مدروسة أعدّ لها الفريق السعودي جيدًا؛ وهي التطلع لتعزيز العلاقات مع روسيا لخدمة الاستقرار العالمي، ومواصلة العمل معها على استقرار أسعار النفط ووقف معاناة الشعب الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ووقف تدخلات إيران في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، إضافة إلى أهمية الحل السياسي للأزمة اليمنية وفقًا للمرجعيات الدولية وأهمية الحفاظ على وحدة العراق وسلامة جبهته الداخلية، وعلى دعم الحل السياسي للأزمة في سوريا. هذه الزيارة لم تتم بين يوم وليلة، ولكنها جاءت نتيجة لجهود حثيثة قام بها مهندس 2030 ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-، لذلك فإن حجم التفاهمات والاتفاقيات، ومنها شراء منظومة صواريخ إس 400 المتطورة، سوف تفتح أمام الجانبين آفاقًا واسعة استعدادًا للتحولات المتوقعة محليًا وفي منطقة الشرق الأوسط وربما العالم. إن العلاقات بين الدول لا تبنى على المزاجية وردّات الفعل الآنية والابتزاز والفوقية في التعامل وإنما على التخطيط الإستراتيجي بعيد المدى وهذا ما أخذت به قيادة المملكة من منظور رؤية 2030. لقد فتحت الزيارة باب فرص التعاون بين الجانبين على مصراعيه، لكن المهم هو المتابعة، والذكي هو من يستغل هذه الفرص ويضرب الحديد وهو حامٍ، وهذه مهمة تتطلب تشكيل فريق عمل يجب عليه أن يتولاها بكل اقتدار ومسؤولية وطنية.