من أعقد العمل إدارة البشر؛ فالجماهير حين تجتمع وتكتظ في مكان واحد يصعب إدارتها نحو الأمان النفسي والصحي والجسمي والديني والسكني فإدارة الحشود البشرية مع سيكولوجية الجماهير الصعبة تجعل من إدارتها الخروج بلا فشل نادر جداً. وأعتقد أنه لم يصل نجاح لإدارة الحشود البشرية على المستوى العالمي كالنجاح السنوي لإدارة الحج في المملكة العربية السعودية. في المناسبات الاجتماعية والسياسية والرياضية؛ مثلاً بطولات كأس العالم الرياضية وأشهرها شعبياً وجماهيرية كرة القدم لم تصل الدول التي استضافتها لنجاح كما هو في الحج. ونجد أن تجمعات المناسبات العالمية تتمحور عادة في دوائر صغيرة كالملاعب والميادين والصالات ونحوها؛ أما في الحج نجد أنها عبارة عن مدن تولد في أيام وتمتلئ بما يزيد عن عدد سكان بعض العواصم العالمية, فليس من السهل تجمعهم، وليس من السهل توجيههم في الشوارع والطرقات, وليس من البساطة استقطاب وتوظيف الكفاءات المتنوعة العسكرية والطبية والإدارية والدينية وغيرها لإنهاء المهمة بسلامة وتميز. وعندما نألف ذلك المنظر السنوي فإننا ننسى تلك النقطة القوية لقدرات دولتنا، ونغفل عن إبرازها على المستوى العالمي وحتى الشعبي. فالجانب الإداري نجد الرؤية للقيادة والرسالة للعاملين والإعداد المحترف المبكر للميدانيين، وفي الجانب التقني نرى الدقة والمتابعة والسيطرة، وفي الجانب الأمني نجد الحضور والتواجد في كل شارع وزاوية بتجهيز عال وقوي، ونتابع تطبيق علميات الأمن والسلامة على المناطق المتوقع خطورتها على المشاة أو المخيمات, وفي الجانب التكتيكي نشاهد الانسيابية والتفويج المنظم للمشاة وللسيارات, وفي الجانب السياسي نرى الشخصيات الرسمية تشارك بأمن وأمان, وفي جانب الخبرة نتابع التغذية الراجعة لكل موسم في تلافي النتائج الأقل نجاحاً إلى الأكثر نجاحاً كخطة المرور ومواضع المخيمات وغيرها. أما إدارة المشاعر والسيطرة عليها من قبل رجال الأمن ورجال الخدمات فترى عجباً من ابتسامة وبشاشة؛ وروح مبادرة للخدمة والتطوع؛ ولمسات العطف والرحمة لكبار السن قبل صغارهم؛ وتقرأ في عيون عموم العاملين وتشاهد الاستبشار بالعمل والتمتع به؛ كل ذلك وهم في أزمة زحام ووقوف وصخب. أما إدارة الأزمات والكوارث التي قد تحصل فنرى الاحترافية في السيطرة عليها بأقل الخسائر واحتوائها عاجلاً. د. سلا يانويا الخبيرة في الأممالمتحدة في كلمة لها في المؤتمر الدولي لطب الحشود والتجمعات البشرية، الذي استضافته السعودية أكدت أنه "لا توجد دولة في العالم تدير وتنظم الحشود والتجمعات البشرية كما تفعل السعودية في موسم الحج، وبهذا المستوى، وبشكل سنوي بل إن دولاً من العالم استفادت من المملكة العربية السعودية كجنوب أفريقيا حين استضافت كأس العالم لكرة القدم". وفي أكتوبر 2012م نقلت وكالة الأنباء الألمانية عن الكوماندر البريطاني في "اسكوتلانديارد" مقدوم تشيسي قوله: "المملكة العربية السعودية تستحق الميدالية الذهبية في إدارة تنظيم الحشود وتوجيه الكتل البشرية"، مشيراً إلى "علو كعب الاحتياطات الأمنية في المملكة العربية السعودية عندما يأتي قرابة خمسة ملايين حاج في وقتٍ واحدٍ، ومن مشارب عدة وثقافات متعددة.. وهنا يكمن الفارق. شكر الله للخادم الأول لتلك الجموع خادم الحرمين الشريفين وولي عهده ؛ وبقية جنود الوطن الأوفياء المخلصين ولرجال أعمال الحج. تقبل الله من الحجاج وكل عام وأنتم بخير.