وكلما يتقدم الفكر يتقدم معه الخيال سعة ونضجا، ولهذا نجد أن مستويات الخيال الفكري تتعدد وتتباين ما بين المثقف والمفكر والفيلسوف، نعني بالخيال ذلك النبع السيال أو ذلك الفيض المتدفق أو تلك الطاقة الخلاقة التي تزود الفكر بالخصوبة، وتنعشه بالقدرة على التأمل والنظر البعيد، وتساعده على اختراق الحجب واكتشاف المجهول، وتحلق به نحو الآفاق الواسعة والفضاءات الرحبة، وتدفع به نحو التعالي عن الاحتباس في القضايا والأمور الروتينية والرتيبة، وتنشط فيه ملكة الإبداع، وتكون مصدرا للإلهام. والخيال بهذا المعنى وبهذا الأفق يصبح أمرا شديد الأهمية ولا غنى عنه أبدا بالنسبة للفكر، والحاجة إليه لا تتوقف بوقت، ولا تتقيد بزمن، ولا تتحدد بحال، فهو الذي يحافظ على حيوية الفكر ونشاطه، ويبرز تألقه ولمعانه، ويظهر توهجه وإشراقه. والفرق بين فكر يتسم بالخيال وفكر فاقد له، كالفرق بين شجرة باسقة تتباهى بجمالها وكرم عطائها واخضرار أعوادها وتشابك أغصانها تسر الناظرين إليها، وبين شجرة أصابها الضعف يكاد اخضرارها يذهب منها حزنا وحسرة لا ثمرة لها ولا عطاء ولا تسر الناظرين، أو كالفرق بين جدول تجري فيه المياه وتتدفق، تتسارع وتتراقص، تزين ما حولها خضرة وجمالا، وبين جدول تكاد المياه فيه تتوقف وتنحسر لا تروي ما حولها تأسفا وندما. وإذا أردنا معرفة عظمة الخيال، يكفي معرفة أن الكاتب لا يستطيع الكتابة بدون خيال، والشاعر لا يستطيع نظم القصيدة بدون خيال، والروائي لا يستطيع إبداع الرواية وهندستها بدون خيال، والفنان لا يستطيع رسم اللوحة الفنية بدون خيال، وهكذا الحال مع العالم والمفكر والفيلسوف. وهذا ما يعرفه هؤلاء جميعا عن أنفسهم، ويدركونه ويتحسسونه دوما، بل إن هؤلاء كل في مجاله يتفارقون من جهة الخيال ويتفاضلون، ويظهر هذا الأمر ويتجلى منعكسا في طبيعة العمل المنجز، وينكشف عادة أمام النقاد ويتنبهون له ويفاضلون به. بل إن المفاضلة من هذه الجهة، يدركها صاحب الصنعة نفسه، ويتحسسها على مستوى أعماله المختلفة، فالكاتب مثلا يرى جودة مقالاته حين تنتعش عنده ملكة الخيال وتتوهج، ومتى ما انتعشت عنده هذه الملكة أثمرت كتابات مميزة ومحكمة، ومتى ما انتكست هذه الملكة أنتجت كتابات أقل جودة وإحكاما، والكاتب يتلمس هذا الأمر بشكل واضح، وهناك من يكاشف به، وهكذا الحال يحصل مع الأديب والفنان والعالم والمفكر والفيلسوف. ويحدث هذا التفاوت في الأعمال من جهة الخيال، لأن هذه الملكة ليست لها وضعية ثابتة، ولا تبقى على حالة واحدة، فلا هي في صعود دائم ولا هي في تراجع دائم، وإنما هي متأرجحة ما بين الصعود والتراجع، وكل إنسان يتحكم بها بطريقته، ويعرف متى تنتعش عنده هذه الملكة ومتى تنكمش، لأنها تتأثر بجميع العوارض التي تصرف الفكر عن الانتباه والتركيز، كالعوارض النفسية الشديدة، والضغوطات المعيشية المؤثرة، والاستغراق في الانشغالات الاجتماعية الملزمة وغيرها. كما أن لكل إنسان طريقته في تنشيط هذه الملكة، فهناك من ينشطها عن طريق القراءة المركزة، وهناك من ينشطها عن طريق المحاورة المعمقة، وهناك من ينشطها عن طريق المشاهدة الجادة، وهناك من ينشطها عن طريق الرحلات المثمرة، إلى جانب طرق أخرى. ومن يتنبه إلى ذاته يلتفت عادة لوضعية هذه الملكة عنده، ومن ثم يستطيع مراقبتها، والمحافظة على انتعاشها، وتدارك ما يؤثر عليها تراجعا أو خمولا، ويختلف الحال بالتأكيد مع من لا يتنبه إلى ذاته، فإنه عندئذ لن يعتني بمراقبة هذه الملكة، ولا المحافظة على انتعاشها، ولا الالتفات إلى تدارك ما يؤثر عليها تراجعا أو خمولا. ومن أكثر الفنون التي عرفت بالخيال وتطبعت به، فن الرواية، فلا يمكن إبداع العمل الروائي من دون الخيال، فبالخيال يبدأ العمل بالرواية كتابة وتدوينا، ولا تكتمل إلا بالخيال، وليس هناك رواية بلا خيال، بل إن نجاح الرواية وتفوقها يتوقف بصورة كبيرة على الخيال. وفي نقد الرواية وتقويمها يحضر الخيال سعة وضيقا، فالرواية التي تعرف بسعة الخيال تكون ميزة نجاح تسجل لها، والرواية التي تعرف بضيق الخيال أو خموله تكون ميزة تسجل عليها. وهناك من يلجأ إلى الرواية مطالعة بدافع البحث عن الخيال وتقوية ملكة الخيال، ومثل هذا الكلام سمعته مرات من بعض الأصدقاء الذين يحبون مطالعة الروايات، ووجدت أنهم يحكمون سعة الخيال معيارا في اختيار الروايات التي يطالعونها، ومن هذه الجهة يتبادلون الانطباعات عن هذه الروايات، فينصحون بالرواية التي تتسم بالخيال الواسع والمدهش. وإذا كان للشعر خياله الذي يعرف عند الشعراء بالخيال الشعري، وللأدب خياله الذي يعرف عند الأدباء بالخيال الأدبي، وللفن خياله الذي يعرف عند الفنانين بالخيال الفني، وللعلم خياله الذي يعرف عند العلماء بالخيال العلمي، فإن للفكر كذلك خياله الذي يعرف عند المفكرين بالخيال الفكري. وكلما يتقدم الفكر يتقدم معه الخيال سعة ونضجا، ولهذا نجد أن مستويات الخيال الفكري تتعدد وتتباين ما بين المثقف والمفكر والفيلسوف، فخيال المثقف أوسع من خيال الإنسان العادي، وخيال المفكر أوسع من خيال المثقف، وخيال الفيلسوف أوسع من خيال المفكر. وفي سيرة الكتاب هناك من تقرأ له وتجد في كتاباته ما يوسع خيالك وتبتهج من هذه الناحية، ويبتهج معك الفكر، وهناك من تقرأ له وتجد في كتاباته ما يضيق خيالك، يرجع بك إلى الوراء بدل أن يأخذ بك إلى الأمام، يرتد بك إلى الماضي بدل أن ينقلك إلى المستقبل، يشغلك بالقديم بدل أن يعرفك على الحديث، يهبط بك إلى الأمور الصغيرة بدل أن يرتفع بك إلى الأمور الكبيرة، ولا مخرج من هذا المأزق إلا بسعة الفكر وسعة الخيال.