إن احترام الرأي الآخر المخالف أمر لم يكن في حسباني في ذلك الوقت ولو عودنا أنفسنا على قبول الآخر كما هو لآرائه المخالفة لآرائنا لتجنبنا الكثير من الشقاق والفرقة الحادثة هذه الأيام، ولجنبنا أنفسنا مؤامرة المتآمرين الذين يدخلون علينا من أبواب الشقاق والفرقة، حينما كنت في مكةالمكرمة وقد كنت وقتها أدرس في معهد الحرم المكي، وهي فترة أواخر عام 1976 م كنت فيها مفعماً بالحماس والاندفاع، وكنت قد تعرفت فيها على مجموعة من الشباب ممن هم على شاكلتي، وكانوا من أهل مكة، أو من أهل ضواحيها مثل: سلطان اللحياني وأخيه منصور وابن عمهم بندر، وبعض طلاب جامعة أم القرى وفي أحد الأيام كنت أساير أحدهم وأتحدث معه، وإذا به يتوقف عند سجادة رثة للصلاة فأخذها وجرى! وكنت وراءه وعندما سألته عن هذا السلوك، قال لي: أن صاحبها مخرف! والغريب أن هذا الشخص الذي أخذ السجادة قد رماها في مكان بعيد داخل الحرم، واستغربت سلوكه تجاه هذا الشخص الذي لم أشاهده بعيني، إلا أن صاحبي مختلس السجادة قال لي أن صاحب هذه السجادة مخرف في عقيدته وبعد أيام مررت من نفس المكان وإذا بالرجل يصلي على غير سجادة، وكان أكحل العينين بعمامة خضراء، وبسبحة يضعها أمامه. وبعد أيام مررت بنفس المكان، ووجدت الرجل يسبح بسبحته الطويلة، ويبدو أنها -أي سبحته- يبلغ عدد خرزاتها تسع وتسعين خرزة. وقد طبع وارتسم في ذهني أن هذا الرجل مبتدع ضال وإلا فكيف يستعمل السبحة في التسبيح وهي بدعة وكل بدعة ضلالة؟ لقد وقع في روعي أن هذا الرجل ضال مضل بعيد عن الالتزام بالكتاب والسنة، على الرغم أنني كلما مررت به أجده في حالة ذكر، أو حالة قراءة القرآن، أو أنه يصلي وفي أحد الأيام وجدت حوله مجموعة من الطلبة يدرسون عليه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، فجلست خلفهم أسمع ما يقول فسمعت بحراً متلاطماً من العلم والفوائد، وكان يستحضر شواهد اللغة استحضاراً عجيباً، ويذكر الخلاف النحوي في المسألة. وكان ممن يحضر هذه الدروس مجموعة من طلبة معهد الحرم من طلاب السنة الأخيرة وبعض طلاب جامعة أم القرى من طلاب الدراسات العليا؛ فقمت منه وأنا مذهول مما رأيت وسمعت. وقد كان يجمعني صداقة ببعض طلابه وبعد فترة وجدت عنده طالباً من طلابه ممن أعرفه وبعد انتهائه من كلامه معه قبل يده وانصرف، فسعيت خلف هذا الطالب وسألته عن هذا الشيخ من الباكستان وهو من أهل البيت وقد غاب عني اسمه وأنه مرجع في النحو العربي وأفضل من يدرسه تقريباً في الحرم، وله تلاميذ يحملون الشهادات العليا، وإضافة إلى النحو فهو ضليع في اللغة وأصول الفقه. وسألته وأنا خجل عما يقال أنه رجل مخرف فقال لي: لعلك سمعت بعض ما يقال عنه فهو ما توريدي العقيدة ويرى جواز الاحتفال بالمولد النبوي وينتمي إلى أحد الطرق الصوفية. ومثل هذا الكلام في ذاك الوقت الذي كنت فيه أحادي النظرة محدودها، رأيت أن هذا الرجل لا يشفع له كونه مرجعاً في النحو وأصول الفقه والمنطق إذا كان صاحب عقيدة مخالفة للعقيدة السلفية! وقد بادرني صاحبي قائلاً: هل تريد أن تدرس عليه؟ فقلت له: أعوذ بالله أن أدرس على هذا الرجل غير السلفي! وأنا في هذا الوقت وبعد كل هذا الوقت الطويل وهذه السنين التي مررت بها أندم شديد الندم على عدم دراستي عليه وللأسف لم تحتفظ ذاكرتي باسمه، إلا انني أذكر كيف كان يدرس النحو بطريقة لم أعهدها عند من درست عليهم لاحقاً، إن هذا الرجل العابد الزاهد لم يسلم من عبثنا الطفولي وغير الواعي. إن الاختلاف مع الآخر معرفياً في أي أمر من الأمور يجب ألا يولد قطيعة علمية، وأنا أذكر هنا كيف أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد تتلمذ في حداثته على العالم الجليل نجم الدين الطوفي، - والذي ترجم له ابن رجب الحنبلي ترجمة سيئة في ذيل طبقات الحنابلة - لقد كان نجم الدين الطوفي عالماً متكلماً ذا رؤية فكرية متجاوزة وحداثية أكثر مما يطرح في هذه الأيام، ولم يسلم هذا الرجل من التشنيع والتبكيت من كل من ترجم له بعد ذلك ممن تناول اسمه، أو مر على اسمه. إن احترام الرأي الآخر المخالف أمر لم يكن في حسباني في ذلك الوقت ولو عودنا أنفسنا على قبول الآخر كما هو لآرائه المخالفة لآرائنا لتجنبنا الكثير من الشقاق والفرقة الحادثة هذه الأيام، ولجنبنا أنفسنا مؤامرة المتآمرين الذين يدخلون علينا من أبواب الشقاق والفرقة، ولو فهمنا أن خلافنا مع الآخر هو خلاف تنوع لا خلاف تضاد، فلو كان عندنا هذه الرؤية لما أطلت علينا الطائفية والأقليمية والقبلية برأسها عند كل حدث. إن العقلية التي تمادي بالرؤية الأحادية هي عقلية غالباً ما تنقلب على ذاتها وغالبًا ما يقع هذا التفكير الأحادي في أوحال الفرقة والتشظي، وعدم الانسجام مع الذات والذي يصل عند بعض الناس لدرجة الوسواس والوهم، إن تطبيع العلاقة مع الآخر ومع الأفكار المتعددة والمتنوعة وأن هناك عدة مذاهب فقهية، وعدة طوائف عقدية نتعايش معها بانسجام تام يقفل الأبواب أمام الأفكار المتطرفة والدخيلة التي لا تنمو، ولا تزدهر إلا بوجود حواضن الطائفية والعداء للآخر.