جاء الأمر القرآني البليغ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا (النور:22) ليؤصِّل لخلقة العَفْو، وهي خليقةٌ لا يُؤتاها إلا صاحِب النَّفس النقيَّة والفِطرَةِ السويَّة، والعِزَّة والقُوَّة. فكل مخالطةٍ للبشرِ لا تخلو من التعرُّض للإساءة، والعداوة حينًا، ولكن الإساءة قد تنقلِبُ حُسنًا، والعداوة قد تصير محبَّةً، والله يجزي بالحُسنَى. العفْوُ والصفحُ الجميل، هو وسيلة تَربيةٍ للمسيء، وتذكير له بمراجعة نَفسِه، عساه يُصلِحها، ويعيد محاسبتها، ويعتذر لِمنْ أساء بِحقِّه. وليس معنى أن نعفو ونصفح، أنْ نقبل الإساءة المتكرِّرة، دون أن نأخذ على يد صاحِبِها، فالعفو، ليس معناها قبول الذلِّ والإهانة، العفو مع العِزَّةِ. العفوُ خُلُقُ قُوَّةٍ، وليس خُلُقَ ضَعْفٍ. وبينَ النّاس نحتاج للعفو والمسامحة، والغفران والمصالحة، وتحتاج مجتمعاتنا إليه أيضًا، فيظلل حياتها بالسعادة والهناء، وينفي عنها خلائق الانتقام والحقد والكراهية. فالعفو إصلاحٌ للنفس وللآخرين فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (الشورى: 40)، والعفو تهذيبٌ للقلب وأن تعفو أقربُ للتقوى (البقرة: 237)، وآيات القرآن التي تحض على العفو كثيرة جِدًّا، ومواقف عفو النَّبي مشهودة في السيرة، أظهرها موقفه – صلى الله عليه وسلَّم – في فتح مكَّة، حين قال لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطُّلقاء". وقال جعفرُ الصادِق - رحمه الله- "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة"، فتلكَ خلائق الصالحين، العافون عن اقتِدارٍ، الخافضونَ جناحًا، الأعزَّاء، يرفعهم الله الدرجات العُلى. فالله عَفُوٌّ، ونبيُّه أُمِرَ بالعَفْوِ خُذِ العفو، وصحابَتُه تحفل سيرهم بمواقف العفو، ومجتمعنا أحوج ما يكون إلى تفعيل خُلق العفو والمسامحة، حتى تقوى أواصر الودّ والقربى بين أفراده، فيصير مجتمعًا متماسكًا، لا تؤثر فيه نزغات الشياطين، ولا ينال منه الأعداء الذين يسعونَ في الأرضِ فسادًا. ولَيكُن شعارِنا كلام ربِّنا خُذِ العفوَ وأْمُر بالعُرْفِ وأعرِضْ عن الجاهِلِين.