((مارلو)) و الجفري و طلال مداح مدينة " مارلو " الانجليزية والقريبة من لندن، من أجمل المدن التي شاهدتها في حياتي .. مدينة وادعة، ينساب نهر التيمز وسطها برقة وسلاسة، يربط طرفيها جسر عتيق جميل، وقد بني وسط النهر سدّ متطامن يعلوه الماء، فينسكب صانعا ً شلالا ً يبهج النفس، وعلى جانب النهر الجنوبي، هناك يقوم فندق رائع عتيق، اشتهر بمطعمه الجميل الملامس لماء النهر، ولهذا المطعم شهرة عالمية، فالكثير من الملوك، والشعراء، والأدباء، في العالم زاروه واستمتعوا بمجالي جماله الساحر المنسجم مع الماء والشجر، والزوارق الملونة وطيور البط، والبجع الأبيض، والبيوت ذات القرميد الأحمر.. وبملحق المطعم من الغرب حديقة طرزت بأجمل أنواع الزهور وبثت داخلها الكراسي، والطاولات، لمن يريدون تناول القهوة، والحلوى، ويستمتعون بجريان الماء الفضي البراق .. أذكر انني دعوت الصديق الأديب المرحوم عبدالله جفري ، والأستاذ الأديب حمد القاضي والصديق محمد العمران في هذا المطعم، ودعوت بعض الزملاء في المكتب الثقافي، وكذلك الطيب صالح – رحمه الله -، وكان جو ذلك اليوم جوا ً ربيعيا ً لا تعرف كيف تصفه جمالا ً ورقة، وصفاء وحبوراً... وحينما وصل الأستاذ الجفري كان في صحبته ضيف، لم نكن نتوقعه على الإطلاق ..!! كان المطرب المرحوم طلال مدّاح .. والحق أن الجميع ابتهجوا بحضوره فهو فنان كبير يمتلك حنجرة نادرة ، وصوتا ً عذبا ً إذا غنّى يرتعش له الوجدان ، وتهتز الخواطر ... ولا أخفي أنني من عشاقه في صباي ، خاصة ونحن نستمع بين نخيلنا وبساتيننا إلى تلك الأغاني الرائعة مثل سويعات الأصيل ، ووردك يا زارع الورد وعطني المحبة، وغيرها من تلك الروائع.. وكان طلال ذلك اليوم في غاية الانسجام والأنس مع الطبيعة ، وكأن نفحة ايمانية حلّت بروحه فالتفت إلى الطيب وقال : إذا كانت هذه جنّة الدنيا فكيف بجنة الآخرة ...؟ وبعد الغداء خرجنا إلى الحديقة، وكان يوم أحد ، وكان هناك عرس بسيط: عروس ، وعريس ، واصدقاؤهما .. وهمس الأستاذ عبدالله الجفري في أذن طلال فقام إلى السيارة، ثم عاد إلينا وهو يحمل عوده ..وأخذ يدوزن أوتاره ثم، راح يعزف عزفا ً فريدا ً أبهر جميع الحضور .. فالتف الناس حوله ونسوا ما هم فيه، ثم غنّى للعرسان أغنية باللغة الانجليزية، واغرورقت عينا العروس بالدموع..! ثم تجلّى وصعدت موهبته فأخذ يغني مقاطع رائعة من أغانيه .. وتسرّب الناس عبر الجسر وامتلأت الحديقة بالجماهير، وكان الجو صحواً، عذباً منسجما ً مع كل شيء وبعد ساعتين تقريبا ً انفض الجمع، وتبع الجمهور الانجليزي طلالاً إلى السيارة وودعوه بالصفير والتصفيق .. لقد كان ذلك المشهد في ذلك اليوم من المشاهد البسيطة التي تبين كيف ينسجم الناس فيما بينهم على سجيتهم، بكل بساطة وبدون تعقيد ثقافي أو فكري أو اقليمي، فكان انسجاما ً انسانيا ً تلقائيا ً جذبته الفطرة البشرية .. لقد كان ذلك اليوم من فرائد الأيام التي لا تتكرر، ومن خطراته التي لا تعود .. ورحم الله الدكتور غازي القصيبي فإنه بعد أن عرف عن الحكاية قال لي ممازحاً: لماذا لم تعزمني؟ و الله لأخبرن طلابك بأنك تقيم حفلات للمطربين..!! وما مررت فيما بعد بذلك المكان إلا ّ رددت البيت المشهور : كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصّفا *** أنيسٌ ولم يَسمُر بمكَّةَ سامِرُ مع الفرق بين المكانين فمكة قد شرفها الله شرفاً لا يدانيه شرف في أي مكان على وجه البسيطة، ولكنها تهويمات الشعر حين تطوف الذكريات بالخاطر فرحم الله عبدالله الجفري وطلالاً والدكتور غازي والطيب صالح ... وتظل الذكريات صدى السنين الحاكي كما قال أمير الشعراء ...