رفض ابني فكرة مقالي السابق، لا لأني لم أكن دقيقة في ذكر الأحداث التاريخية بشكل صحيح مما جعلني أقع في خطأ جسيم، بل لأني تحيّزت ل"تان تان" البطل الكرتوني الشهير أكثر من نيل آرميسترونغ، ويوري غاغارين، أول رائدي فضاء في العالم، مما أبعدني عن الموضوعية في الطرح. التصحيح المهم الذي نبهني إليه ابني هو أن الأدب والعلم مكتملان، وأن مرحلة الأدب تسبق دوما مرحلة الوعي التي بدورها تسوق الإنسان إلى عوالم التكنولوجيا والاختراعات وتطويع مصاعب الحياة لصالحنا. ولذلك وجب علينا أن نعرف المخرج الفرنسي جورج ميلياس الذي كان سبّاقاً لوضع قدميه على القمر، ومعرفة فيلمه "رحلة إلى القمر" الذي أنتج العام 1902، كان أول من جعل الفكرة تبدو قابلة للتحقيق، قرّبها للمتلقي بمحتوى الممكن لا بمحتوى المستحيل، وقد بنى أحداث فيلمه على قراءاته لروايتين مهمتين هما "من الأرض إلى القمر" لجول فيرن، و"أول الرجال على سطح القمر" لهربرت جورج ويلز. وقبل هاتين الروايتين كتب كثيرون عن القمر. فقد شغل القمر أهل الشعر والأدب على مدى قرون، عكس الشمس التي لم تكن مادة لمخيلتهم لا في الشرق ولا في الغرب. والحالمون بالتحليق في فضاء الله الواسع لم يغرهم سوى القمر بالسفر إليه، وقد تخيلوا الحياة جميلة على سطحه، كما في نصوص مطلع القرن العشرين التي مهّدت لبلورة الفكرة من المتخيل إلى الواقع، مثل الكاتب الألماني أوتو ويلي الذي أدرجت روايته "سفر نحو القمر" 1928 ضمن أدب علم الخيال، وفي العام نفسه نشرت مواطنته ثيا فون هاربو في تصادف غريب روايتها "امرأة على القمر" وأيضاً صنفت نفس التصنيف...! أما الأميركي روبرت أنسون هاينلاين فقد كان عميد كُتّاب الخيال العلمي، وقد نشر روايته "ثورة على القمر" العام 1966 ونال بها جائزة هوغو لأفضل عمل روائي في العام التالي، وبعدها بسنتين أصبح ما كتبه حقيقة مع أن زمن قصته محصور في العام 2075. لكنّ خطوة آرميسترونغ التّاريخية على القمر جعلت الصورة الرومانسية له تنهار، فما عاد القمر يستهوي المخيلة الإبداعية، بل في قصص وروايات ما بعد تلك الرحلة ابتكر الكتاب مراكب فضائية أكثر تطورا وابتعدوا في أسفارهم خارج مجرّتنا إلى مجرّات أخرى، وكواكب أخرى تدور حول شموس غير شمسنا، ووصفوا حيوات في منتهى الغرابة وكائنات تشبه القرود والزواحف أكثر مما تشبه البشر. ويبدو أن الزحف التكنولوجي والحقائق العلمية تصدم الشعراء والكتاب وتُعَثِّرُ عبقريتهم، والدليل أن النصوص التي ألفت حول القمر والمريخ وكواكب أخرى لم تعد تقنعنا، ولكنّها تقنع الأطفال إلى مرحلة معينة من أعمارهم. مع أن الحقيقة الفعلية تقول: إن التكنولوجيا ابنة المخيلة، ولا شيء يفصح عنها غير الأدب، وإلاّ ظلّت حبيسة الجمجمة البشرية، والدليل واضح بين المجتمعات المبدعة والقارئة، وبين مجتمعات كمجتمعاتنا تستخف بالأدب وتعتقد أن التطور التكنولوجي يأتي بقفزة سحرية كلما ارتفع سعر برميل النفط.