كنت ذات يوم في مكتب مسؤول كبير (من فئة إذا قال فعل) حين أتوا بموظف متهم بالتلفظ ضده بكلام بذيء (عبر الهاتف).. تغير وجهه حين دخل عليه وسأله بغضب عن صحة ما نسب إليه، فهز الموظف رأسه وقال: "نعم صحيح، والله إني غلطان، وماعندي عذر، وإذا عاقبتني معك حق، وإن سامحتني فهذا من طيب أصلك".. انتهى الموضوع على خير بفضل اعتذار مثالي في كل كلمة من كلماته.. اعتذار تضمن اقرارا بالذنب (نعم صحيح) واعترافا بالخطأ (والله إني غلطان) واستعدادا لتحمل العقوبة (إذا عاقبتني معك حق) وانتهى باستجداء ذكي يصعب على ابن الكرام رفضه (إن سامحتني فهذا بسبب طيب أصلك).. من يومها بدأت أتنبه إلى أن الاعتذار فن لا يجيده معظم الناس.. فالبعض يكابر فيزيد الخطأ خطأً، والبعض يحاول التبرير فيزيد الآخرين غضبا.. أما رفضك لمبدأ الاعتذار من أساسه فيتسبب بهرب الناس منك وفقدك شخصا عزيزا في كل مرة.. وفي المقابل يحول الاعتذار اعداءك إلى محبين، ويمنحك فرصة جديدة مع الآخرين، ويجعل "الآخرين" يتحدثون معك بكل صراحة.. والاعتذار بدون شك صعب على النفس كونه يتضمن اقرارا وتنازلا واعترافا بحق الطرف الآخر.. ولكنه في المقابل يثبت كم أنت شجاع وذكي ونبيل في أخلاقك.. حين ترى (صاحب السعادة) يعتذر لخادمه وسائقه وطفله الصغير فأعلم أنه ليس رجلا حكيما فقط بل ويملك شجاعة ذاتية وقيمة أخلاقية يفتقدها معظم الناس.. .. المشكلة أننا جميعنا نعتذر ولكننا نرتكب أخطاء تقلل من قيمة الاعتذار ذاته.. فمن الخطأ مثلا أن تعتذر مبررا أفعالك أو راميا وزرها على الطرف الآخر.. لا تقل شيئا مثل (آسف ولكنك أجبرتني على ذلك) أو (ولماذا لم تفهم أنت قصدي) أو (سبق وأخبرتك أنني عصبي).. لا تمزج اعتذارك بالنصائح المستهلكة مثل (لو كنت مكانك لفعلت كذا وكذا) أو (لماذا لم تتصرف معي بشكل أفضل) أو (الأيام كفيلة بحل هذه المشكلة).. الاعتذار يتعلق دائما بالطرف الآخر ولا يجب أن يتضمن نصيحة أو شرطا أو حتى شرحا لأسباب تصرفك.. أحرص على عدم تحوله لجلسة محاسبة أو فتح للملفات القديمة وقدمه بطريقة مختصره ومدروسة وكي تعتذر بطريقة فعالة ومرضية يجب أن يأتي اعتذارك على خمسة مستويات تتدرج بحسب حجم الخطأ: . اكتف بكلمة (آسف) أو (أعتذر منك) للأخطاء الصغيرة والعابرة.. لا تحتاج لتبرير نفسك، ولكن قلها بصدق ووضوح وفور وقوعها.. . وإن تفاقم الوضع اعترفْ بخطئك وتحمل مسؤوليتك كأن تقول (كنت مخطئاً بلا شك) أو (أنا من يتحمل مسؤولية ذلك).. . أما الأخطاء المؤذية والمتعمدة فيجب أن تتضمن عرضا بالتعويض مثل (سأسعى لإصلاح ماحدث) أو (سأفعل أي شيء تريده).. . وإن كان الشخص يعز عليك فقدم وعدا بالتحسن وعدم تكرار الخطأ مثل (أعدك بأن تكون هذه المرة الأخيرة) أو (سأكون حريصا على عدم تكرار ذلك ثانية).. . أما إن كان خطؤك أكبر من كل ماسبق (أو تتوقع رفض الطرف الآخر لاعتذارك) فلا يبقى أمامك غير تجربة "اصطياده" بين الناس، ثم تقديم اعتذارك له على الملأ.. بقي أن أشير إلى نقطة مهمة؛ وهي ضرورة تعليم أولادنا عادة الاعتذار بكل أريحية وروح رياضية.. فهذا لوحده كفيل (ليس فقط بفك حالات الاحتقان والتعاند التي تشتعل بيننا لأتفه الأسباب) بل وفكهم من المآزق والقضايا التي قد يقعون بها مستقبلا.. مثل صاحبنا في بداية المقال..