يمضي رمضان منذ توهج هلاله، متوشحاً بالذكريات اليومية، يرسم الابتسامة على الشفاه تارة، ويعتصر الفؤاد أخرى، يمر خلاله شريط الطفولة بصوره الجميلة ما بين اجتماع الأقران واللعب سوياً، والطُّرف التي ما زالت حاضرة عن ادعاء الصيام والاختباء من أجل الأكل أو الشرب خلسة بعيداً عن الأنظار، وبين غياب الأحبة وخلو مقاعدهم المتحلقة حول مائدة الإفطار بعد أن مروا بدنيانا سريعاً، مبتعدين بأجسادهم تاركين حباً ملازماً للقلب، " إنها الأرواح الطيبة التي ظلت باقية تقاوم النسيان رغم غيابها "، هكذا وصف "أحمد" رحيل والدته التي لازمت المكان بردائها الأبيض الجميل وسجادتها ومسبحتها، بحكاياتها، بالسعادة التي لم تغب إلا معها، ليس ثمة ركن ولا زاوية إلا واشتاق لها، حتى ظلال مقتنياتها العتيقة امتدت إلى أبعد من وهج الضوء، كانت تتوضأ بالإيمان، و تنتظر فراغ الأبناء والأحفاد من الإفطار لتذهب سوياً معهم إلى الحرم الشريف تحث خطاهم وتدفعهم نحو الطهر والقداسة. أما "عبدالرحمن" فتحدث عن ألم فقد والده وشقيقه: "ما أن أعلن دخول الشهر المبارك، ومضى الصيام، وتحلقت الأسرة حول المائدة حتى عاد الغائبان في حديثنا، فتوقفنا عن تناول الإفطار وذرفنا الدموع، حاولت حينها أن أتمالك نفسي رحمة بوالدتي المريضة وبأشقائي وشقيقاتي، ولكني لم أستطع "لم يكن ألم الرحيل الأبدي وحده مؤلماً على سفر الإفطار بل غياب الذائدين عن الوطن، والمبتعثين للدراسة، والراقدين على السرر البيضاء، بل والمقيمين المغتربين عن أسرهم، والنازحين الهاربين من لظى الحروب، كل مائدة تحكي ألم الفراق وشظف الحياة، ولكنها تحمل أملاً في اللقاء والالتئام مجدداً.