تراها طوال الوقت صلدة صامتة، تأتي متفرقة حيناً ومتراصة أحياناً أخرى، يتشبه بها كل ما هو خال من الشعور والإحساس والضمير، إن أحسنت استعمالها تكون درعاً لك من برد ومن حر، وأيضاً من عدو، وإن لم تحسن أصابك منها الضرر العظيم، إنها حجارة فلسطين! في فلسطين قررت هذه الحجارة الصامتة أن تخرج عن قساوة صمتها وأن تصرخ وتروي لنا بعض حكاياها، قررت أن تثبت لنا أنها أفضل من بعض بني البشر، قررت أن تثبت لنا أنها تشعر. بتنهيدة مؤلمة بدأت روايتها عن أيد ناعمة صغيرة اتخذتها سلاحاً يواجه آليات متطورة، ومحدثة لنا عن أن تلك الأيادي تثق بها أكثر من ثقتها بأصحاب مناصب سلاحهم الدبلوماسية المنمقة، حكت لنا الحجارة أنها وقفت محامية عن أصحاب تلك الأيادي ولم تخيب ظنها. رفعت الحجارة رأسها بشموخ وبدأت في رواية حكاية بعض العظماء، حكاية الأسرى الذين يسكنون داخل الجدران التي بنيت منها، أصبحت صديقة لهم تستمع لشكواهم ليلاً، وتنصت لأنينهم خفية، وتشعر بوشم رسومات لأسماء من يحبون على صدرها، في الوقت الذي تحول فيه العالم إلى كفيف عاجز أصم أبكم. وبدموع العين روت لنا هذا الحجارة قصة أم تتوسدها بعد أن احتضنت ابنها داخل القبر الذي بني منها، تتحسر على دمع الأم، وتشعر بالعزة حين تسمع صوت ذلك الابن العاجز الذي ينادي أمه، ويخبرها ألا تحزن لأنه شهيد، لأنه بطل، لأنه في حماية تلك الحجارة التي احتضنته في الوقت الذي عجزت فيه القطعان البشرية عن حمايته، تتمزق ألماً عند قدوم طفل لينادي أباه الذي استشهد أمامه، يخاطبه أن يعود معه إلى المنزل لأنه جائع بلا مأوى، ولأن غيابة طاله، ولأنه استشهد ليعش غيره. ثم بدأت تلك الحجارة بالاستنشاق، فقد استنشقت بعمق روائح يصعب علينا الوصول لاستنشاقها، روائح سور عكا، حارات القدس، الحرم الإبراهيمي، فرحت وافتخرت وحزنت وتألمت وسمعت ورأت واشتمت، بل وشعرت بسيلان تلك الدماء، وسمعت صرخات تلك الأرواح التي تصادمت بها قبل صعودها للسماء، وتحركت لترتطم بجدران تلك المركبات الظالمة، ولأن الصمت ظلم، قررت الحجارة أن تنطق ونطقت، بل وصرخت قائلة " ألا إن نصر الله قريب".