بدت الصورة لافتة جداً، وربما الأشد إدهاشاً بين الصور الأخرى المنشورة في إحدى الصحف العربية: امرأة مصرية محجّبة تدفع بيديها أحد رجال الأمن صارخة في وجهه بقوة حتى كادت شفتاها تلامس شفتيه من شدة اندفاعها نحوه. لم تنتبه المرأة في لحظة غضبها هذه، أنها محجبة، وأن من عادتها ألا تصافح الرجال وألا تلمسهم بيديها، بل لعلها نسيت في أوج هذا الغضب أنها امرأة، وامرأة محافظة، فانهالت على رجل الأمن دفعاً بيديها وجسدها. لقد أصبحت في لحظة الغضب تلك كائناً اجتماعياً مثل سائر المواطنين المتظاهرين احتجاجاً، والمنادين بحقهم في العيش الكريم والحرية والعدالة... انها لحظة الغضب «الساطع» تجعل البشر متساوين، طبقياً وإنسانياً و «فيزيقياً»، إن جاز القول، فالصرخة الطالعة من القلب تساوي بين جميع الصارخين، لأنها صرخة واحدة، ولأن الألم واحد أيضاً. كانت هذه الصورة التي نشرتها إحدى الصحف العربية هي الأشد بلاغة بين الصور الكثيرة، وبعضها يفيض بالحماسة والشجاعة والجرأة التي تآلفت جميعاً في تلك اللحظات، فمن النادر جداً ان يدفع الغضب امرأة الى التحرر للحظات قليلة من المحرّمات المفروضة عليها والتي تؤمن هي بها، لحظة الغضب تلك جعلت الإنسان الكامن في دخيلاء هذه المرأة ينتصر على كل ما عداه. إنها لحظة إنسانية بامتياز، هذه اللحظة التي تشعر فيها المرأة أو الرجل أنهما ينتميان الى جنس بشري واحد هو الإنسان. يحتاج الإنسان العربي المعاصر إلى الغضب الجماعي. الغضب الفردي، الصامت أو المنفعل لا يفيد في مثل هذه الأحوال من الظلم الكبير. يحتاج الإنسان آنئذٍ الى ان يكون فرداً في جماعة، يتلفت من حوله فيرى نفسه نقطة في بحر من البشر الذين لا يحصون، الذين يتدافعون ويهتفون رافعين ايديهم وقائلين: لا. الغضب الجماعي هو أشد قوة من الغضب الفردي والشخصي، حتى وإن كان أقل عمقاً. الغضب الشخصي هو الأعمق حقاً لكنه غضب صامت وأخرس، وقوته تكمن في صمته هذا أو خرسه. هذا الغضب لا يواجه به المرء عادة إلا القدر وآلهة القدر وكل ما يحيط بهم، لكنه الغضب، الذي ينتهي دوماً بخراب شخصي هو الغاية التي يصبو إليها. «بطل» الرسام إدوارد مونخ في لوحته «الصرخة» لم يعلن غضبه إلا على نفسه، وقف على الجسر وصرخ أقصى ما أمكنه ان يصرخ من غير ان يبالي ان كان سمعه أحد على الأرض أو في السماء. أما الجماعة حين تصرخ غضباً، فيهمها كثيراً ان يسمع الآخرون صراخها، لأنها تصرخ كي تُسمع. إنها صرخة الغضب التي لا بد لها من اجتياح الحواجز وهدم الجدران. صرخة الحرية التي لا يمكن خنقها لأنها صرخة الحياة التي تتقدم الى الأمام ولا ترجع الى الوراء. قيل إن جموعاً من المتظاهرين في مصر استعادوا قصائد «غاضبة» لشعراء طالما عاشوا على وقع أصواتهم الصارخة، بهدوء حيناً وغضب حيناً: صلاح جاهين، احمد فؤاد نجم، عبدالرحمن الأبنودي وسواهم. المشهد جميل حقاً: أن يردد المتظاهرون قصائد «غاضبة» جاعلين منها شعارات تعبّر خير تعبير عن احتجاجهم وتمردهم السلمي وحماستهم وآمالهم... إنها تتخطى الشعارات الصارخة التي يطلقها المتظاهرون غالباً، مواجهين بها السلطة أو السلطات. وقيل ان الكثيرين من الشعراء المصريين استعادوا «خزين» الشعر السياسي الذي كادوا ينسونه، وكأنه وحده القادر على تلبية مطامحهم في مثل هذه الآونة. فهذه اللحظات الغاضبة لا يليق بها سوى هذا الشعر السياسي المباشر الذي لا «يحابي» ولا «يداور»، بل يتوجه الى آذان الجماهير للفور محرّكاً فيهم مشاعر الغضب والحماسة والاندفاع... إلا أن الشعر السياسي يظل عاجزاً عن مضاهاة لحظات الغضب الجماعي المشفوع بالاحتجاج والتمرد. يظل هذا الشعر عاجزاً عن بلوغ قوة هذه اللحظات وسطوعها. يذكر الجميع كيف فاق مشهد الأطفال الفلسطينيين وهم يرمون الحجارة على الجنود الإسرائيليين كلَّ القصائد التي كتبت عنهم، فاللحظة التي يعيشها الطفل الذي يرمي الحجر مخاطراً بنفسه هي اشد صدقاً وصفاء من اللحظة التي يكتب فيها الشاعر قصيدة عن هذا الطفل نفسه. تبدو القصيدة باهتة امام سطوع اللحظة التي يحياها الطفل، فالشعر يأتي لاحقاً دوماً، يسجل هذه اللحظة ويرقى بها (أو لا يرقى) الى مصافّ اللحظة الإبداعية. الشعر يحل في المرتبة الثانية هنا، حتى وإن سبق الوقيعة نفسها في أحيان، متنبئاً بها. وهذا ما تجلى في قصيدة الشاعر التونسي ابي القاسم الشابي «إرادة الحياة»، التي وجد فيها بعض المتظاهرين في تونس شعاراً رددوه عالياً: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة...»، ولا أخال ان أبا القاسم كان يتوقع ان تتحقق نبوءته هذه في بلاده نفسها. يحتاج الإنسان العربي الى الغضب الجماعي، لكن هذا الغضب قد ينتهي الى الخيبة، وهنا الخوف، كل الخوف. كم من تظاهرات سحقت تحت ضربات الهراوات وخراطيم الماء وتحت انهمار الرصاص المزيف والحقيقي... وكتاب التاريخ يحفل بالكثير من أخبار الثورات المجهضة والمسحوقة، وأبرزها ثورة ربيع براغ 1968 التي ضرّجها دم المواطنين الأبرياء الغاضبين والصارخين بجرأة في وجه المحتل. يحتاج الإنسان العربي الى الغضب الجماعي، شرط ان يُلمّ بأسرار هذا الغضب، فلا يذهب هباء، بل يزهر مثلما أزهرت «ثورة الياسمين» في تونس. وإلا فليقف هذا الإنسان على جسر وليطلق وحده صرخة غضب قوية مثلما فعل «بطل» لوحة إدوارد مونخ. وهذا ما فعله الكثيرون، ولعلّي واحد منهم.