تختلف آراء الناس في الشيء ذاته.. تنظر إليه بطرق مختلفة، وتتذوقه بمستويات متفاوتة، وتحكم عليه من زوايا مختلفة.. أكتب أحيانا مقالات لا تروق لي -بعد نشرها- ثم أفاجأ بانتشارها الكبير في مواقع التواصل الاجتماعي.. حين يقول لي أحدهم "هذا أفضل مقال قرأته لك" أدرك فورا أنه (ليس أفضل مقال) ولكنه أكثر مقال ناسب أفكاره واهتماماته وميوله وتصوراته.. والحقيقة أن فهم ما يُكتب مسؤولية مشتركة بين الكاتب والقارئ؛ فالكاتب يطرح الفكرة ولكنه لا يتحمل مسؤولية سوء الفهم أو تأثير النشأة أو التصورات المسبقة لدى القارئ. حين تقرأ شيئا وفي ذهنك تصور مسبق عن الكاتب ستجد حتما ضالتك وما يؤكد رأيك.. حين تعتقد أن ما نشأت عليه هو محور الكون سترى في كل ماعداه هرطقة وبعدا عن الصواب.. وأنا هنا لا أبرئ كُتاب الرأي (خصوصا أن الرأي لا يحتاج لتبرير) ولكنني أعترف أنهم بشر عرضه للخطأ والتحيز وعدم الحيادية.. المقال بالذات يختلف عن الخبر المجرد كونه يعبر عن الرأي الشخصي للكاتب (ولا تتوقع من الكاتب أن يكون محايدا أو قادرا على إرضاء الجميع).. الحياد الدائم يهدد بمحو شخصية الكاتب وتحويله إلى صحفي أو محرر للأخبار.. أو في أسوأ الأحوال مجرد ناقل لأفكار وآراء الآخرين.. من المهم جدا التمييز بين الصحفي والكاتب.. فقد يتواجد الاثنان في نفس المطبوعة ولكن مهمة الصحفي هي تقديم الخبر أو التقرير بشكل أمين ومحايد لعموم الناس (وهذه بلا شك مهمة جليلة) في حين لا يزاول الكاتب أياً من هذه العناصر كونه مجرد إنسان مفكر لا يبحث عن الخبر ولا يعد التقارير بل يطرح رأيه الخاص في هذه القضية أو تلك.. تقييم الكاتب يجب أن يكون معزولا عن تقييم مايكتبه في كل مرة.. لا يجب أن تتدخل مشاعرنا الشخصية في الحكم على الأفكار والآراء والمحتوى نفسه.. فقد يكون الكاتب محترفا ومتفوقا ولكنه يخرج أحيانا بمقالات ضعيفة أو لا تناسب رؤيتك الشخصية.. وفي المقابل قد تقرأ مقالا رائعا -أو يناسب رؤيتك للعالم- سطره كاتب هاو أو مغمور يعجز عن الاستمرار أو تقديم المزيد.. ولهذا السبب تصبح مسؤولية القارئ تمييز الأفكار ذاتها (وفي كل مرة على حدة) بصرف النظر عن رأيه الشخصي في الكاتب نفسه.. وبوجة عام؛ مشاعرك الشخصية يجب تحييدها إن أردت أن تحكم فعلا على أي انسان.. لا أنصح بتشكيل فكرة مسبقة أو صورة نمطية عن حامل الرسالة (وإلا ستعمينا عن رؤية الحقيقة) بل الاتجاه مباشرة لتقييم الرسالة ذاتها.. ليس بالضرورة أن يتفق الكاتب والقارئ في كل شيء (وهذا ليس سيئا) لأننا نتعلم من اختلافاتنا وخلافاتنا ووجهات نظرنا المتباينة.. فأنت من جهة لن تتعلم شيئا جديدا إن كنت تقرأ دائما ما يناسبك ويتفق مع آرائك؛ والكاتب من جهة أخرى يفقد مصداقيته حين يحاول مجاملتك أو مجاملة أي جهة على الدوام..