كم من نِعَمٍ حبانا اللهُ، وكَمْ من خَيراتٍ مَنَحَنا وأعطانا، والنِّعمة تُوجِبُ شُّكرَ المُنْعِمِ، والإسرافُ والتبذير ليسا إلا لونًا من ألوانِ الكُفران بالنِّعمة، وعدم الحفاظ عليها وفق ضوابط الشرع الحنيف. وثقافة الاستهلاك والهَدْرِ التي تعيشها معظم المجتمعات اليوم تدعونا لإعادة تصحيح ممارساتنا وسلوكياتنا، ودقِّ ناقوس الخَطَر، لئلا يَنزعَ الله منا نعمه، ويذيقنا بأسه وعذابه، فحينَ نبحث في مجتمعاتنا تواجهنا أرقام مفزعة لِنِسَب الهَدْر المخيفة في الماء والطاقة والغذاء،...إلخ. فحين ترتفع نسبة هَدْر الطعام، أو الهدر الغذائي في المناطق الحضرية بالمملكة إلى 34%، وحين نجد أن مملكتنا هي الثالثة عالمياً في معدل استهلاك الفرد للمياه، مع أنّ نصوصنا الدينية التي نحفظها جميعاً تدعونا لترشيد استهلاك المياه، وألا نُسرفَ في الماء، ولو كُنَّا على نهر! بل نجد أنّ الهَدْرَ في الطاقة قد كلف الاقتصاد المحلي مبالغ طائلة، وهذا الهدر يُعرقل المسيرة الاقتصادية، ويُصدِّر لنا بعض الأزمات والصدمات، فالحاجة ملحّة لترشيد الطاقة، والبحث عن البدائل والطاقات المتجدِّدة، كالطاقة الشمسية، وتصحيح ثقافة الاستهلاك التي جعلت مجتمعنا من أعلى المجتمعات استهلاكاً للطاقة خلال ال 25 سنة الماضية. الترشيد لا يعني التضييق والتقتير، بل يعني حسن إدارة الموارد المتاحة على مستوى الأفراد، ويعني - أيضًا - الاعتدال في الاستفادة من المقدّرات على وجهها الأتمّ، بلا إهدار، أو إساءة استخدام، في الوقت الذي تعاني فيه أُممٌ وشعوبٌ من شحّ المياه، وانعدام الطاقة، وقِلَّة الطعام وانتشار المجاعات، لولا أنّ دعوة إبراهيم - عليه السلام - ضمنتْ لهذا البلد أمنَه، ورِزقَ أهله من الثمراتِ، لكنّ هذا يوجِبُ علينا مسؤولية الشكرِ، والاستخدام العادل للخيرات والنِّعَم التي وهبنا الله إياها. وكما نشكره - سبحانه - على نِعمه وعطاءاته، نشكره أيضاً على نعمةِ أن هيأ الله لبلادنا قادةً، وحكومة رشيدة، تعمل على خير الناس ومنافعهم، فعلينا أن نكون على قدر المسؤولية حِفاظًا على النعمة، والاستفادة منها، وتجنّب كل ما يؤدّي إلى إهدارها، وتوجيه تلك النّعم لفئات حُرِمَتْ منها، فما أُنشئت بنوك الطعام، إلا لتتلقى الطعام الفائض عن الحاجة وتوجهه للمستفيدين من الفقراء، وما وُجِدتْ المؤسسات والجمعيات الخيرية التي تتلقى الهبات والملابس إلا لِتكسو الفقراء، وما وجدت جمعيات حماية البيئة إلا لتضمن لنا بيئة نظيفة نقية صحية. نعمة الله نتحدث بها، ونستفيد منها، ولا نُهدِرُها، ونُرشِّد استخدامها، كما يدعونا ديننا الحنيف، بل إنّ ثقافة الترشيد لا ينبغي أن تتوقف على الأمور المألوفة من طعام وشراب وطاقة، بل ينبغي أن تتسع الدائرة لتشمل ترشيد أوقاتنا وجهودنا لتكون في نَفع أنفسنا ومجتمعاتنا، ولا تكون في إهدار وقتنا وطاقتنا في عبث أو هزل لا يفيد، ونحن في مرحلة تحتاج إلى السواعد الجادّة، والأفكار المتجددة، والعقول الناهضة، والقلوب النابضة لمصلحة الأمّة. قَبْل خَطْوِكم قَدِّروا مواضع أقدامِكم، وقبل الاستهلاك، اتّبعوا تعاليم دينكم، ولا تهدروا مقدرات الأمّة، ولا طاقاتكم، فيزيدكم الله على نعمه نِعمًا، ويبارك لبلادنا، ويحفظها من كل ضيق وشِدَّة. نسألُ الله لبلادنا رغدًا ورخَاءً، ولأبنائنا وعَيًا صحيحًا رشيدًا، ولِمجتمعنا فَوزًا ونهوضًا.