لا يختلف أحد على أن عالم اليوم، هو عالم مادي يتطور صناعياً، بشكل مذهل وعجيب! ولكنه بالقدر نفسه يتأخر، وينحدر أخلاقياً، بشكل مذهل وعجيب أيضاً! ومن المعلوم أن غير الأخلاقيين يرددون دائماً قولهم: وما هي الأخلاق أو الفضائل؟ بل ويزعمون وعلى مذهب "نيتشه" ومن تأثر بهم ممن سبقوه من الفلاسفة الأقدمين، أنه لا توجد أخلاق ولا فضائل، فالمادة والمصالح هي التي تصنع الأخلاق. وبذا فهم يجردون الإنسان من أسمى قيمه، ويحولونه إلى أقل بهيمية من البهائم، لأن البهائم لديها أخلاق غريزية. واليوم هناك ضجيج في العالم الغربي من علماء اجتماع، وفلاسفة، ومفكرين، يدعون إلى إعادة الإنسان من فرديته، وتوحشه المادي، وعطبه الأخلاقي إلى القيم الإنسانية، والروحية السامية. وسبق لي أن كتبت عن هذا الموضوع كثيراً ولعله من المناسب وسط هذا الضجيج الإنساني أن أعيد شيئاً مما أشرت إليه حيث قلت: إذا كنت على وفاق وانبهار دائم بمنجزات الغرب فلست على وفاق مع حضارته.. على الصعيد الاجتماعي الإنساني. لأن الحضارة الغربية بكل بساطة حضارة صناعية محضة. الغرب ينمو نمواً صناعياً سريعاً مذهلاً.. عمائر عملاقة وأنفاق وجسور جبارة، وصيحات كمبيوتر مذهلة وتقدم في مجالات الاتصالات، والصناعات الدقيقة وتسارع في صناعة أسلحة تربك العقل.. بنوك ضخمة، وأسواق جبارة تعرض من الطائرة إلى إبرة الخياطة. سباق في الطب ومكافحة الأمراض. وسائل راحة لا تخطر على البال. بارات ومراقص وملاه وشركات لبيع اللحم الأبيض. فإذا كان جيبك عامراً فسوف تتحول إلى ملك غير متوج... بالإشارة تجد كل ما تريده أمامك في التو وفي اللحظة. كل هذا متوفر في الغرب. ولكن كل ذلك خال ومفرغ من شيء واحد اسمه الحب. لا يوجد في الحضارة الغربية شيء اسمه الحب.. أعني الحب بأبعاده الوجدانية والروحانية النبيلة.. فلقد أصبح كائناً منقرضاً وربما يكون موجوداً في الشعر والروايات القديمة والمسرحيات القديمة فقط. أما اليوم فمن الصعوبة إن لم يكن من النادر رؤية هذا الكائن الأسطوري أو الخرافي، مستحيل أن تقابل الحب في شارع أكسفورد، أو البكاديللي أو الشانزليزيه أو شارع وستهايمر. اليوم لا أحد يحب إلا نفسه، ولا أحد يفكر إلا في نفسه.. هناك جموع هائلة، ولكن هناك عزلة حب مميتة. حتى العشق بين العشاق، تحول إلى مهنة، ومنفعة وحالة مؤقتة، يقتلها السأم والملل، فتتفكك وتنتحر. وكثيراً ما سمعنا عن الأطفال المذبوحين أو المخنوقين والذين يرمون في حاويات الزبالة، أو الغابات، أو مجاري الأنهار تخلصاً من تربيتهم والصرف عليهم حيث تتفوق لقمة العيش على عاطفة الأمومة والأبوة حيث يموت الحب. الجار لا يعرف جاره ولا يريد أن يعرفه، والذي يسير في الطريق يتجنب المطعون النازف أمامه ولا يحاول الاقتراب منه أو التعرف عليه أو محاولة إنقاذه! في محطات قطارات الأنفاق الناس خائفون حذرون.. يترقبون. كل يتلفت إلى نفسه وإلى ما في يديه خوفاً وقلقاً، إنه الانفراد الوجودي الرهيب، إنها العزلة في المجتمع الحر المطلق المفتوح. يا للمأساة حينما يتحول الكون إلى معتقل ضخم وتتحول مساحة الحركة إلى سجن انفرادي معزول.. الإنسان لا يعرف أخاه الإنسان إلا من خلال الأفلام وما يعرض في جهاز التلفزيون، أما في الحياة العامة في الشارع العام، في الطرقات، فكل مشغول بنفسه وقليلة هي لحظات الاجتماع والاستمتاع الإنساني الحر في الجو الطلق، وفي الإحساس الإنساني الطلق، وفي الجو الإنساني الطلق. في حضارة الغرب بين الإنسان والكلب حميمية، وعلاقة نفسية وورحية تحسده عليها حتى الأطفال في أحضان أمهاتهم. والمسألة كما ترون مخيفة، مخيفة إلى درجة الفزع.. فالإنسان أصبح يفزع من إنسانيته بسبب الأنانية والفردية، والمادية، وعبادة الذات، نتيجة ثقافة مادية عدمية، متوحشة.. والمخيف حقاً أن هذه القيم أخذت تمتد وتنتشر إلى كثير من الأصقاع، بما فيها عالمنا العربي، وهو عالم مفتوح وغير محصن ويمكن أن تدخل من ثقوبه الجمال والفيلة.. فكثير من المدن العربية خلعت رداءها الإنساني وبدأت تتمرد على أخلاقها كوحش مغمض العينين.. وتخيلوا هذا العالم العربي المتخلف في كل شيء، المتدني في كل شيء تخيلوه وحشاً جائعاً قد كشر عن أنيابه، وأخذ يأكل أطفاله ويقضم حتى أصابعه!