لم يكن الطيب صالح مجرد روائي فقط لا غير، وإنما كان أديباً كبيراً موزعاً على فنون أدبية كثيرة، وكان الروائي فيه من أعجب وأغرب الروائيين في العالم، فلم يكن مهتماً بكتابة الروايات، يصدر رواية في السنة مرة، أو كل بضعة أشهر، كما يفعل الكثيرون، وإنما كان يصدر روايته عندما تنضج أحداثها في ذاته ولا يجد مفراً مكتابتها أو إصدارها، ولعل أكثر ما كان يضايقه سؤال الصحفيين الدائم عن سبب صمته، أو عدم نشره لروايات جديدة، وقد شكا مرة من هذا السؤال الذي كان يحار كيف يعالجه أو يجيب عنه ويقول: «أنا في الواقع مثل أصحاب الدكاكين في الأرياف، افتح ساعة أشاء وأقفل ساعة أشاء ولست مقيداً بوقت محدد»، ولكن هذا الروائي سواء كتب روايات أو غير روايات، كان أديباً من أدباء الطبقة الأولى، له نظرات نافذة في قضايا كثيرة في طليعتها التراث، وكان على الخصوص مفتوناً بشخصيات فيه منها المتنبي والمعري. وإذا كان قد كتب في فنون أدبية كثيرة، فإن فناً أدبياًواحداً لم يكتب فيه هو السيرة الذاتية. صحيح أن بطل «موسم الهجرة إلى الشمال» هو الطيب صالح نفسه، وأن رواياته الأخرى «كعرس الزين» أو «مريود» أو «المنسي» وهي من آخر ما كتب، تتضمن الكثير من سيرته الذاتية مروية على لسان أبطال أو شخوص رواياته، ولكنه لم يكتب سيرة ذاتية منفصلة أو مستقلة. ولو انه كتب مثل هذه السيرة لروى ضمناً واحدة من أعظم الروايات لأنها ستكون خلاصة تجربة حياة موزعة على مدائن وبلدان وحضارات وثقافات مختلفة. فهو سوداني عاش سنوات كثيرة في الغرب والشرق وظل على الدوام يحنّ إلى السودان ويتألم لمصائبه ويأسى لأوضاع أهله. ولاشك انه هو الذي أوصى بأن ينقل إلى السودان عند موته وأن يدُفن فيه. وإذا كان لكل امرئ من اسمه نصيب، فإن اسم الطيب صالح تلخيص دقيق لذات إنسانية مفطورة على الفضائل والكرامات. الطيبة فطرة فيه وليست اكتساباً وكذلك الصلاح الذي تفيض به سريرة كأن بوصلتها مبرمجة منذ الولادة على توخي الخير للناس أجمعين، إذا تكلم فبتؤدة وتمهل وتفحص لما سيتكلم فيه، ولا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم، يقول كلمته ويمشي كما كان يقول أمين الريحاني، ولكنه لا يقول شيئاً إلا إذا كان واثقاً مما يقول ولي صالح من دون عمامة، وعندما كان يحج أو يقوم بالعمرة إلى مكةالمكرمة، كان يمضي أيامه في تلك الديار المقدسة وعيناه مغرورقتان بالدموع، والنفس في خشوع وتسليم، إنسان رقيق وشفّف ونفس منطوية على الحب والورع توسل الحب حتى في النقد الذي كتبه عن أدباء التراث، وعندما كتب مرة عن المتنبي وجه اللوم إلى طه حسين وكتابه الأحمق عن المتنبي، واعتبر أن طه حسين انتهى إلى نتائج خاطئة عن أبي الطيب لأنه دخل عليه كارهاً، فبالحب، وبالحب وحده، تبوح النصوص بأسرارها لقارئها.. ولكن السيرة الذاتية للطيب صالح قابلة لأن تكتب في يوم من الأيام على يد إخوانه ومحبيه، وما أكثرهم، ومن الغبن ألا تكتب لأن الطيب صالح، إنساناً وأديباً، غير قابل للتكرار، ومن شأن كتابه سيرته، ما يلهم ويمتع ويفيد!.