قبل سنوات، طلب مني أحد الزملاء أن أرافقه في مهمة تم تكليفه بها وهي "تمشية" بروفيسور رياضيات في الرياض. وكان ذلك البروفيسور الأوروبي يزور المملكة لأول مرة ليلقي كلمة في مؤتمر تنظمه إحدى المؤسسات العلمية. وبعد أحاديث متناثرة، سألته عن رأيه في العلاقة بين الفيزياء والرياضيات، فقال لي -مما قال-: إن الفيزياء تقدم للرياضيات المشكلات (المسائل البحثية) الأكثر إثارة ومتعة! كثير من الأشخاص يتخرجون في المدرسة -وربما من قسم علمي بالجامعة- وهم لا يستوعبون التداخل بين الرياضيات والفيزياء، وكثير منهم قد يظن أن الرياضيات هي دائما صاحبة الفضل على الفيزياء.. لأنها لغة الفيزياء كما يُقال. لكن الواقع هو أن الأفضال متبادلة بين الفيزياء والرياضيات، فلا يمكن "اشتقاق" قوانين الطبيعة من الرياضيات وحدها، ومع ذلك فإن أهم أدوار الفيزيائي هو أن يصف الطبيعة بمتغيرات تربطها علاقات وأرقام رياضية. وفي المقابل، فإن كثيرا من أفرع الرياضيات كان يُعتقد أنها تجريدية فلا علاقة لها بالطبيعة. ثم تمضي السنون ليكتشف الفيزيائيون أن تلك الرياضيات "التجريدية" تصف سلوك بعض الأنظمة الفيزيائية في الكون، وبالتالي يزداد النشاط البحثي في ذلك الفرع من الرياضيات. من أشهر الأمثلة، استخدام آينشتاين لهندسة ريمان، وهي الهندسة الرياضية التي تصف فضاءات منحنية. وكان الاعتقاد هو أن الفضاء في الطبيعة هو فضاء لا انحناءات فيه، حتى تنبأت نظرية آينشتاين العامة للنسبية بأن "الزمكان" يمكن أن ينحني بفعل الكتل (كالأرض)، وأثبت الرصد تنبؤات النظرية، فأصبحت لهندسة ريمان مكانة مهمة في الفيزياء. هذه المعلومات قلما يتعرف عليها الطلبة في المرحلة المدرسية، لذلك تجدهم يتساءلون دوما: "ما فائدة الرياضيات؟"، وهم بالطبع لا يقصدون الحسابات الصغيرة التي تعيننا في حياتنا، بل يسألون عن أفرع الرياضيات التي لا يرون لها استخداما مباشرا في حياتهم العامة (كالتفاضل والتكامل) على الرغم من أن كثيرا من الأشياء حولنا توصف وفقا لتلك الرياضيات. العلاقة الوثيقة بين الفيزياء والرياضيات تغيب عن كثير من الناس، والمتأمل فيها يجد متعة وغرابة في الوقت نفسه. فإذا كانت الرياضيات هي في جوهرها نتاج منطق عقل الإنسان، في حين أن الطبيعة هي شيء يقوم الإنسان باستكشافه بالرصد والتجربة، فكيف إذن يتوصل عقل الإنسان إلى رياضيات "تجريدية" يكتشف بعدها بمئات السنين أنها رياضيات تصف الطبيعة وصفا دقيقا؟ هو سؤال عميق جدا لا أحد يعرف له إجابة حتى اليوم!