مدينة كبيرة ومهمة مثل الرياض لا تنقصها الأمكنة الجميلة المرتبطة بالهوية المحلية لكن «روح المكان» كانت الأكبر من تلك الامكنة. لقد رددت في مناسبات عديدة أننا لسنا بحاجة إلى تجميل الشوارع بقدر ما نحتاج إلى إتاحة هذه الشوارع للناس وتركهم «يلونونها» بأنماط حياتهم المتعددة، فما يقتل روح المكان هو «توحيد» أنماط الحياة في قالب واحد، ولعل هذا بالتحديد ما عانت منه الرياض خلال عقود طويلة... هل نحن مقبلون على تحول "مديني" ثقافي يختلف عما عهدناه في مدننا في السابق؟ لا أعلم إن كان للزخم الثقافي هذا الأسبوع في مدينة الرياض دور في تصاعد هذا الإحساس داخلي، فمن الجنادرية وهي تتخطى الثلاثة عقود من عمرها والاكتظاظ المثير الذي يؤكد أن الأسرة السعودية تحتفي بالترفيه الثقافي وتبحث عنه، وهذا ما أثارته صور الازدحام في الطريق إلى المهرجان، فقد علق أحدهم بقوله: إن الأسرة السعودية متعطشة للترفيه، إلى "ليالي المشراق" في البيوت الطينية في المربع في وسط الرياض الذي نظمته جمعية النهضة النسائية. حدثان ثقافيان في وقت واحد كلاهما كانا محط اهتمام أفراد المجتمع وكلاهما قدما صور ثقافية خارج المعتاد الاجتماعي. الحدثان يشيران إلى تحول في الثقافة الاجتماعية العامة وبالتحديد في كيفية تفاعل أفراد المجتمع مع الفضاء العام، ويؤكدان أن هناك شيئاً ما يولد داخل مدينة الرياض والمدن السعودية بدرجات متفاوتة. هناك تحول في الصورة الحضرية، ليست العمرانية بل في أسلوب الحياة الحضرية في المدينة وهذا التحول ليس وليد اليوم بل له امتداد زمني بعيد وكان فقط بحاجة إلى أن يسمح له بالخروج والتعبير عن وجوده. العلاقة الجدلية القديمة بين "المكان" و"الإنسان" وأيهما يصنع هوية الآخر يمكن إثارتها في حالة المكان في المدينة السعودية، فأزمة الهوية التي أثارها البعض منذ الثمانينيات كلها تصب في شكل المكان المادي بينما مدينة كبيرة ومهمة مثل الرياض لا تنقصها الأمكنة الجميلة المرتبطة بالهوية المحلية لكن "روح المكان" كانت الأكبر من تلك الامكنة. لقد رددت في مناسبات عديدة أننا لسنا بحاجة إلى تجميل الشوارع بقدر ما نحتاج إلى إتاحة هذه الشوارع للناس وتركهم "يلونونها" بأنماط حياتهم المتعددة، فما يقتل روح المكان هو "توحيد" أنماط الحياة في قالب واحد، ولعل هذا بالتحديد ما عانت منه الرياض خلال عقود طويلة. إذا ما الذي حدث حتى تخرج المدينة عن رتابتها، فلا يمكن أن يكون الحدث مفاجئاً ولا بد أن يكون الاستعداد كامن داخل المجتمع وكان بحاجة فقط لكي يتمظهر فعلياً في الفضاء العام. كان من الواضح أن الحياة العامة والحضرية في المدن السعودية الكبرى والمتوسطة تتجاذبها تيارات متعددة تقلل من الجرأة الاجتماعية وتقيد كثير من السلوك الاجتماعي الأمر الذي قنن الفضاءات العامة وجعل منها أماكن تفتقر للروح الحقيقية التي يفترض أن تعبر عن هوية المكان. نتج عن ذلك أننا تمددنا عمرانياً دون هدف وزادت المساحة الاستهلاكية بشكل غريب فأصبحت مدينة مثل الرياض عبارة عن مزيج من المجمعات التجارية والمطاعم، ولا يوجد شيء آخر يمكن التوقف عنده. هذه الظاهرة على وجه التحديد نتجت عن الحدود الحضرية الضيقة التي قيدت الأسرة السعودية وحددت حركتها بشكل واضح في الفضاءات المدينية العامة، الأمر الذي جعل من ظاهرة "العطش الترفيهي" ظاهرة ثقافية بامتياز صارت تتصاعد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة ربما يمكن تتبعها من ظاهرة معرض الكتاب إلى "الشارع الثقافي" الذي نظمته أمانة الرياض قبل عدة أشهر حتى مركز الملك فهد الثقافي. هذه الانتفاضة الحضرية في مدينة الرياض، على وجه الخصوص، ذات قيمة اجتماعية/ثقافية تبين أن نمط حياتنا المديني صار يتجه إلى التعبير المباشر دون خوف وأن القيود المفروضة في السابق لم تعد مجدية أبداً، وأعتقد شخصياً أن الإعلام الجديد الذي خلق منتدى افتراضياً يجمع كل أفراد المجتمع كسر كل حواجز "الريبة" التي بنتها الحدود التاريخية على الحياة في مدننا حتى أن الكثير صار يراهن على فشل مشاريع حضرية عملاقة بحجة أن أفراد المجتمع سيرفضونها بدعوى "الخصوصية"، لكن الواقع أثبت أن الأسرة السعودية متسامحة أكثر بكثير مما حسب حسابه البعض فالحواجز التي كانت تفصل الأسر في قاعات المطاعم اختفت وأصبحت الأسر تجلس متجاورة دون حرج. الرغبة في التكيف موجودة بل ومطلوبة ولعل هذا ما تؤكده الجنادرية والنشاطات الثقافية الأخرى هذه الأيام.