قبل عدة أيام زارني المهندس محمد المحمود، وهو أحد طلابي الذين يحضرون الدكتوراه في التخطيط الحضري خارج المملكة، وكان الهدف من الزيارة مناقشة بعض القضايا التي يعمل عليها في البحث خصوصاً وأن موضوعه هو "السلوك الإنساني في الفضاء الحضري اليومي في مدينة الرياض"، وكانت الفرصة بالنسبة لي هي أن أناقش معه موضوع "التحرش الجنسي" المثار هذه الأيام على المستوى الاجتماعي والثقافي وحتى القانوني وهل للفضاء العمراني العام أي تأثير في ذلك. لا أكذبكم القول أن النقاش كان مثيراً لأن مثل هذه القضايا عادة لا تناقش في جامعاتنا ولا أحد يرغب أن يفتح مثل هذه المواضيع على المستوى التخطيطي الرسمي، لذلك أصبحت قضية التحرش معلقة وغير مفهومة على المستوى العمراني بل وتثير الاستغراب لدى البعض. بالنسبة لي لم أستغرب رفض مجلس الشورى قانون التحرش، ولم أعجب أن تقوم بعض عضوات المجلس بالوقوف ضد إصدار هذا القانون، ولم أتعجب من قول أحد المشايخ أن على الناس أن يتجاهلوا حوادث التحرش لأنها نادرة وغريبة على المجتمع، لأن موضوع التحرش في الأصل لا يثار ولا أحد يريد أن يفكر فيه، ولولا وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة لما أحد فكر في مثل هذا القانون الذي تقول عنه إحدى الناشطات في الدعوة أنه يكرس "الاختلاط" كقيمة اجتماعية، والحقيقة أنني لا أعلم ما العلاقة بين إصدار قانون لحماية الفتيات من الأذى وبين أن القانون يعني أننا نعترف بوجود اختلاط في مجتمعنا. علما بأن هناك مصادر في وزارة العدل تقول إنه خلال العامين الأخيرين (1435 و 1436) هناك ست قضايا تحرش يومية تقريباً في المملكة وما خفي كان أعظم. طبعاً من الناحية الحضرية هناك اختلاط طبيعي فلا يمكن أن نصنع مدينة للرجال وأخرى للنساء وتجربة تخصيص أسواق تجارية للنساء فشلت فشلاً ذريعاً. ويستحيل أن نخصص ممرات للمشاة للنساء أو العوائل دون الشباب العزاب، إذاً فما الحل، وما يجب علينا أن نفعل؟ نحن أمام حالة عمرانية وسلوكية «شاذة» وغير مقبولة لأن حدوث حالات تحرش عابرة يمكن قبوله كجزء من المجتمع الإنساني الطبيعي أما أن يتحول الفضاء العمراني بأكملة إلى حالة «قلق سلوكي» كونه يحث على التحرش ويشجعه فهذه ظاهرة مرضية يجب معالجتها ما أود أن أقوله إن الاختلاط على المستوى الحضري وعلى مستوى وظائف المدينة الحيوية حالة عفوية وطبيعية ولا يمكن منعها بأي حال من الأحوال. وأذكر أنني قبل أكثر من عقد كتبت مقالاً بعنوان "جندرية المدينة" وقد أثار العنوان كثيراً من الزملاء فاستخدام كلمة "جندرية" وهي مأخوذة من لفظة Gender الإنجليزية التي تعني "الجنس" أو "الجنوسة" كانت مستغربة من قبلهم ولم يفهموا ما أريد بينما كنت أرى أن المدينة السعودية لم تكن مخططة ومصممة من أجل المرأة السعودية، وأن فضاءاتها العمرانية تهمش المرأة وتبعدها عن أي دور طبيعي. تحدثت للزميل الشاب المحمود عن هذه المخاوف التي بدأت تسيطر على الفضاء العمراني في المدينة السعودية وكيف سيعمل بحثه للدكتواره على معالجة هذه القضية، لأن أي تحرش جسدي بحاجة إلى مكان ويجب أن يكون المكان مناسباً لحدوث مثل هذا التحرش والفضاء العمراني هو أحد العناصر الرئيسية التي يحدث فيها التفاعل الإنساني، الإيجابي والسلبي. هذا مثلاً ما لمسته من دراسة قمت بها شخصياً على المراكز التجارية في مطلع الألفية الثالثة حيث أكدت الكثير من النساء أنهن لا يفضلن الذهاب للأسواق التي ممراتها غير مفتوحة على فضاء كبير لأن الممرات ذات النهايات المسدودة والضيقة تسمح بحدوث مضايقات لهن بل وأحياناً اعتداءات، وأذكر أن مواصفات تصميم المراكز التجارية تأثرت بشدة بهذه التوجهات التي جعلت من الفضاء العمراني داخل السوق مكشوفاً بحيث لا يسمح بحالة انعزال للمرأة ومن ثم يمنع أي محاولة لمضايقتها. المهندس المحمود يقوم بدراسة تفصيلية لطريق التحلية في مدينة الرياض وقد أكد لي أن النساء لا يشعرن براحة في المشي في هذا الشارع لأن الجلسات الخارجية يحتلها شباب وهم يجلسون بشكل مقابل لحركة المشاة على الأرصفة ليراقبوا المشاة من النساء وهذا نوع من التحرش البصري غير المقبول في أغلب المجتمعات. هذه الظاهرة السلوكية سببها تحديد وظيفة الجلسات الخارجية في الفضاءات العمرانية التي خصصت للذكور فقط، ويرى أنه لو سمح للعوائل بالجلوس في الخارج سوف يتم القضاء علىيها أو على أقل تقدير الحد منها بشكل كبير. الملاحظة الثانية التي أثارها الزميل، وقد عرض عليّ مجموعة من الصور التقطها خلال دراسته الميدانية التي رصد فيها الحركة في شارع التحلية لعد أيام كان يقضي أحياناً أكثر من 16 ساعة يومياً وهو يراقب حركة المشاة ويرصد سلوكيات الفضاء العمراني في الشارع ووجد أنه في الحالات النادرة التي تمشي فيها النساء في الشارع يضطررن للمشي على حواف الشارع وفي حالة انتظارهن للسائق غالباً ما يتكتلن في مجموعات لحماية أنفسهن. والحقيقة أن هذا يذكرني بما كتبته قبل أسبوعين في هذه الصحيفة حول الفضاء العمراني "القلق والمتردد" الذي تتميز به مدننا فنحن أمام حالة عمرانية وسلوكية "شاذة" وغير مقبولة لأن حدوث حالات تحرش عابرة يمكن قبوله كجزء من المجتمع الإنساني الطبيعي أما أن يتحول الفضاء العمراني بأكملة إلى حالة "قلق سلوكي" كونه يحث على التحرش ويشجعه فهذه ظاهرة مرضية يجب معالجتها. قلت له هناك إشكالية كبيرة في التعامل مع الفضاء العمراني في مدينة الرياض وفي كل المدن السعودية وبينت له اعتراضي مثلاً على تقسيم المطاعم والمقاهي من الداخل في قسم العائلات لأنه يساعد على الفساد الأخلاقي، وهذا رأي قديم كتبت حوله في السابق واعترض عليّ البعض لكنني مازلت أرى أن التناقضات بين الفراغات الداخلية والفضاءات المفتوحة صارخة في المدينة السعودية بل انني صرت أميز مناطق الرياض المتشددة من تلك المرنة من خلال الفضاءات العمرانية الداخلية، فزيارة مثلاً للمولات في العليا تختلف عن مثيلاتها في شرق أو غرب الرياض. في العليا سوف تجد أن النساء أقل التزاماً بغطاء الوجه بينما في المولات الأخرى نادراً ما تجد امرأة كاشفة لوجهها. وهذا ينطبق على المقاهي والمطاعم، ففي شارع التحلية الالتزام بالغرف المخصصة للعوائل غير ضروري وليس مطلوباً بعكس المطاعم والمقاهي في مناطق أخرى. سوف يقول لي البعض إن هذا أمر طبيعي نتيجة لتعدد أنماط الحياة والخلفيات الثقافية ومستويات التعليم في مدينة كبيرة مثل الرياض. كما أن ظاهرة الاستقطاب الحضري Clustering ظاهرة معروفة تقريباً فهي تجعل الناس المتشابهين سلوكياً وعرقياً وحتى مهنياً أن يتجمعوا في مناطق متقاربة على مستوى المدينة، وأنا أتفق معهم، لكن في المدينة السعودية يظهر التناقض الحضري والسلوكي الصارخ نتيجة لعدم فهم الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع المرأة على المستوى الحضري وعلى مستويات كثيرة. فعقدة المرأة الحضرية واضحة جداً وهي التي تجعل من فكرة الاحتفال والترفيه غير مستساغة أصلاً وغالباً ما تظهر مهرجاناتنا ناقصة ومبتورة نتيجة لهذه العقدة. حتى "مترو الرياض" سيواجه مشكلة مع هذه العقدة فقد استغربت عندما سمعت أنه ستخصص عربة للنساء وأخرى للعوائل وثانية للعزاب. ستكون الرياضالمدينة الأولى في العالم التي تسن مثل هذه السُّنة، علما بأنني أرى السعوديين والسعوديات يستخدمون وسائل النقل العام في الخارج دون عقد. إن هذا التصنيف وهذا الفصل بين الجنسين يكرس العقد الاجتماعية والحضرية بشكل مخيف، بل انه يمثل الدافع الأول لحدوث التحرش لأننا من النادر أن نسمع أن الشاب السعودي يمارس سلوكايات خاطئة خارج بلده وهذا يدل على أن المشكلة داخلية وهي نتيجة لضغوط متراكمة بدأت تطفو على السطح بشكل واضح ومرعب ويجب علينا أن نتعامل معها بسرعة وبشكل عقلاني لا أن ننكرها وندفن رؤوسنا في التراب لأننا فقط لا نريد أن نعترف بها. لمراسلة الكاتب: [email protected]