بضائع أموات وملابس مستعملة وأجهزة متهالكة وأغذية مجهولة المصدر زحام وأدخنة متصاعدة وأصوات متعالية بلهجات مختلفة من جنسيات أسيوية وأفارقة ومعروضات من مختلف الأصناف والمتناقضات.. هذا ببساطة واقع مايسمى ب"حراج الرخوم" في الشميسي بالرياض، حيث يباع كل ما يخطر على البال وما لا يخطر على البال من ملابس قديمة، وأغذية مجهولة المصدر والصلاحية، وأجهزة إلكترونية مستعملة ورديئة الصنع ورخيصة الثمن، وجوالات بماركات متنوعة وبعضها مزيفة، وأواني معدنية، وساعات بالجملة. لأول وهلة لم أكن أتصور بأنني أدلف لأحد الأسواق الشعبية أو الحراج كما يطلق عليه لولا أنني أسمع من هذه الزاوية أو تلك مساومات بيع وشراء على بضائع رديئة وأجهزة متهالكة، ولكني تأكدت من شيء واحد وأنا أسير بين البسطات العشوائية بأن البيع في حراج الرخوم لا يقوم على منطق، ولا يحكمه نظام أو قانون، سوى الحاجة والضرورة، ورخص وتنوع البضاعة. فالجميع يمكنه أن يحصل على ما يريد في هذا الحراج كما لو أن النظام هنا؛ هو أن لا يخرج أحد إلا بما يريده من سوق الرخوم الذي تبدأ نشاطاته من مساء كل خميس، وتنتهي بغروب يوم السبت إذا سلم أهل السوق والبائعين من حملات البلدية. طابع القدم والإهمال لا يطال فقط المكان، بل كذلك ثمة بائعين من كبار السن القدامى وقد حفرت السنين ملامحهم من تعب وشقاء يتلقفون الزبائن بأهازيج حرفية بالغة، إلى جانب الباعة الأجانب من جميع الجنسيات وهؤلاء شباب ورجال في أواسط العمر، وإن وقفت بوسط الحراج يأتيك إحساس لا إرادي بأن الزمن قد توقف قبل خمسين عاماً، حيث الأشياء العتيقة، والشوارع الترابية، والزي الشعبي، إلى جانب الفوضى التي تعم البضاعة فتعكس بذلك أذواق رواد الحراج . فوضى واهمال يدرك أهل سوق الرخوم أن تجارتهم الرائجة لا تزدهر إلا بعيدا عن الرقابة، وفي مأمن من حملات البلدية لذا فالتوقيت المحدد الذي يبدأ بعد ساعات من نهاية الدوام الحكومي للبلدية في يوم الخميس؛ هو بداية النشاط الذي يرصده الزائر من خلال الحركة في عصر الخميس ابتداء بتحميل البضائع المستعملة، وعرض البضاعة على بسطات أرضية بعد صلاة عصر يوم الخميس إلى صلاة المغرب، والبضائع تترك كما هي عند الغروب، بعد أن يتم تغطيتها في أكوام فتظل في الحراج إلى عصر يوم الجمعة لتواصل ذروة النشاط في حراج الرخوم. الجميع يكاد يوقن بأن ترك البضاعة مكومة طوال ليلتي الجمعة والسبت هو جزء من اتفاق غير مكتوب بين الجميع بحيث لا تتعرض البضاعة السائبة في الليل إلى السرقة إلا نادرا فعند نهاية اليوم يأخذ البائعون معهم الأشياء الثمينة والمهمة، ثم يتركون البضائع الخفيفة أو الأجهزة الخربة، كما هي في السوق إلى عصر يومي الجمعة والسبت. ثور هائج حراج الرخوم والذي يتفق الأغلبية على أن سبب تسميته بهذا الاسم يعود لحادثة قديمة يتداولها كثير من زوار وسكان الحي القدامى، وهي أن أحد الثيران الهائجة دخل يوما ما إلى الساحة، ففر جميع من في المكان ولم يستطيعوا الوقوف أمام الثور الهائج، مما جعل الجميع يطلق عليهم صفة "الرخوم" وتعني الجبناء في اللهجة العامية الدارجة، تقع أرض الحراج على مساحة مستطيلة تقارب كلم طولا، ظل فيها النشاط الموسمي للسوق لأكثر من خمسين عاما تقريبا.. ساحة خالية، ليس فيها محلات إسمنتية لعرض البضاعة، ولا منصات بيع، ولا حتى أكشاك (كان هناك كشك بوفيه أزالته البلدية منذ سنوات) كل ما هو متوفر بسطات على الأرض يعرض فيها كل شيء للبيع. وقوع الساحة خلف مستشفى الشميسي من ناحية وبين شارعي الشميسي القديم وشارع السبالة من ناحية أخرى، جعل منها مخططا محتملا لحديقة بحسب بعض أهل الحي فحراج الرخوم الذي ورث قوة الصفة من حراج الديرة، الذي كان قائما منذ أيام الملك عبد العزيز طيب الله ثراه. قوانين السوق حركة الحراج المتنقلة بين عصري الخميس والسبت، تعج بعرض الكثير من البضائع الخفيفة والقديمة والمستعملة ونظرا لما تهامس به الناس من أن بعض بضائع سوق الرخوم مسروقة، فقد توافق أهل السوق على الاستمرار في نظام طبقته البلدية على حركة البضائع في السوق قبل سنوات عدة ؛ يقضي بأن يطلب البائع في سوق الرخوم من كل صاحب بضاعة: تسجيل رقم هويته وجواله، ورقم سيارته حرصا على معرفة صاحب البضاعة في حال كونها بضاعة مسروقة، ثم بعد ذلك أصبح هذا النظام عرفا متبعا بين الباعة وأصحاب البضاعة المجلوبة إلى الحراج، ومع ذلك يؤكد رواد للحراج بأن المعروض لا يخلو من بضائع مسروقة بين الحين والآخر. من يأتي لحراج الرخوم عادة هم أناس من جنسيات مختلفة، وإن كان أصحاب البشرة السمراء هم الغالبية بين الباعة والزبائن على هامش حركة البيع والشراء، وبعد إغلاق البوفيه الوحيد من طرف البلدية، يجد الزائر للحراج مواقد شواء للأطعمة الخفيفة كالذرة وأبو فروة، وعلى الجانب الآخر يشتم رائحة تعبق بكامل المكان حيث يتحلق الزوار من العمالة حول مواقد لشواء اللحم بأعواد معدنية ( السيريه وهي أكلة ذات أصول أفريقية من نيجيريا ) ولكن لغياب النمطية وفوضوية المكان يقوم بعض العمالة الباكستانية بممارستها في الحراج. أثناء تجول " الرياض " في السوق ومحاولة حوار الباعة، بدايةً رفض كثير منهم أن يتم تصوير بضاعتهم، أو تصوير أشخاصهم كما رفضوا في الوقت ذاته الحديث إلى الصحيفة، خوفا واحترازا، وبطبيعة الحال لكل سوق شخصيات معينة تلعب دورا في إدارتها، لكن في حراج الرخوم لا يكاد الزائر يقع فيه على شيخ سوق، نظرا لطبيعة النشاط الهامشي لهذا الحراج. أحد البائعين أخبر " الرياض" بأن شيخ الحراج شخص يدعى "سعود" أبو سلطان وأشار إلى بوابة بقرب الحراج قائلا: " يمكنكم أن تذهبوا إليه وتأخذون منه العلوم والأخبار" وحين ذهبنا إلى حيث أشار لم نجد أحدا، وربما قد ارتاب من سؤالنا فأشار إلينا ليبعدنا عن ساحة الحراج. بضائع مسروقة أبو سارة أحد أبرز البائعين في سوق الرخوم لدى سؤاله عن علاقته بهذا السوق تحدث قائلا: "أنا أبيع كل شيء من البضائع المستعملة منذ أكثر من عشرين عاما، اشتري البضاعة من البيوت والمجمعات السكنية ولم ينفِ أبو سارة أن كانت بضاعته تخص أغراض شخصية لأناس قد فارقوا الحياة، ويتابع: هذا السوق كان يتم فيه البيع بصورة دائمة، إلى أن منعتنا البلدية من البيع في بقية الأيام ما عدا أيام الخميس والجمعة والسبت " وبخصوص التأكد من معرفة البضاعة يضيف: قبل أن نشتري البضاعة لابد من تسجيل اسم صاحب البضاعة ورقم هويته ورقم سيارته وهاتفه الجوال وإذا رفض تسجيل تلك المعلومات، نعرف على الفور أن بضاعته مسروقة. العم سعد - مواطن - من سكان حي الشميسي، يقول: " أعيش هنا منذ 45 عاما آتي إلى هذا السوق مساء الخميس والجمعة للترفيه عن النفس والحديث مع الأصحاب، ويتابع العم سعد " هذا سوق للفقراء وكل ما يحوي من بضائع يكون إما خربان أو غير مفيد عدا الملابس، لكني لا أمنع نفسي من المجيء عصر الخميس والجمعة من كل أسبوع لمتابعة أخبار السوق، ويضيف: من يلازم هذا السوق يضربه الفقر كما حصل معي كان الحراج أولا في الديرة، ثم تم نقل الحراج إلى شارع الريس وكان شيخ الحراج آنذاك الشيخ محمد بن جهيِّم - رحمه الله قبل عشرين عاما، إلى أن تحول الحراج إلى سوق الرخوم الذي أصبح مكانا لكل البضائع المستعملة كطواحين الكهرباء الخربة والأواني المنزلية وبطاريات الجوالات ذات العمر القصير وحين سألنا العم سعد عن الشيخ الغامض للسوق أجابنا متهكما من قال: إن هناك شيخ للحراج، ويوضح بقوله: الحراج لا شيخ له والجميع هنا يبيع ويشتري، والحركة فيه تتم بحرية وبلا نظام. اختلاط اللغات رواد حراج الرخوم وزبائنه عادة هم من الأجانب متعددي الأعراق والجنسيات تختلط لغاتهم في فضاء المكان الذي لا يخلو من النساء سواء كزبونة أو بائعة، جلال إدريس * شاب سوداني - من رواد الحراج الدائمين يقول: (من هواياتي المفضلة أن أذهب إلى حراج الرخوم عصر يوم الجمعة هناك الكثير مما يثير فضولي أحيانا أمر بالسوق بحثا عن قطعة غيار لجهاز إلكتروني، وأحيانا أشتري ما أريد من بضائع رخيصة الثمن ما يعجبني في هذا السوق أنني لا أخرج منه إلا بشيء ما في يدي خصوصا في وقت أصبح فيه الغلاء فاحشا والدخل قليل) ويستطرد جلال قائلا: (في السوق يمكنك التعرف على أنواع البشر من جميع الجنسيات دون تكلف، وأتمكن من التواصل معهم لاحقا بخصوص ما أحتاجه من بضاعة ). بشير - عامل آسيوي - في العقد الرابع من عمره، جلس إلى بسطته التي تحوي ملابس مستعملة ابتاعها جملة ليعرضها في الحراج ( بشير يحرج على البضاعة ويقف عليها بنفس الوقت أحياناً )، يوضح بشير بأن البسطات، لا تتجاوز مبيعاتها ما قيمته 100 ريال للبسطة الواحدة في اليوم، على أحسن الأحوال، لكن هذا المبلغ برأيه يعدّ مشجعاً بالنظر إلى قلة التكاليف التي يتكبدها، إلى جانب الشريحة التي ترتاد الحراج. رقابة البلدية مع مرور الأيام واستعصاء حركة السوق في الكف عن نشاطها التلقائي حيث صار حراج الرخوم أشبه بالأسواق الأسبوعية التي تعرفها المناطق والقرى في بعض الدول العربية، ثم أمام إصرار أهل السوق على الانتظام في البيع والشراء منذ يوم الخميس إلى غروب شمس يوم السبت من كل أسبوع ، أصبحت علاقة السوق بالبلدية بمثابة تبادل أدوار معروفة، حيث يتجدد الدور الأهم للبلدية صباح يوم الأحد من كل أسبوع حين تأتي السيارات والشيولات من طوارئ أمانة الرياض لتقوم بحملة تمشيط وتنظيف ومسح عام لساحة الحراج من بقايا البضاعة التالفة أو الملابس القديمة وإعادة تهيئة الموقع. حساسية وميكروبات ما جانبها تحذر د. هند الحميد -استشارية أمراض الجلدية -من خطورة الملابس المستعملة باعتبارها حاضنة للكثير من الطفيليات والأوبئة المخفية، التي تتركز في النسيج القطني والحريري للملابس، مشيرة إلى أن «الأمراض الجلدية والطفيليات التي تختزنها هذه الملابس تحتوي على الملايين من الطفيليات الصغيرة والميكروبات الدقيقة جداً، التي تسبب أمراضاً تحسسية، وأنواعها لا تعد ولا تحصى، بحسب تقسيمها للمرض، وممكن أن نقسمها إلى طفيليات وميكروبات، تسبب التحسس الجلدي، وتحسس الجهاز التنفسي، ومن الناحية المرضية فهي تسبب كثيراً من الأمراض الجلدية المعدية والمتنقلة. الحراج يعرض بضائع مستعملة من كل صنف