"كنت أمشي في الطريق بصحبة صديقين، وكانت الشمس تميل نحو الغروب، عندما غمرني شعور مباغت بالحزن والكآبة. وفجأة تحولت السماء إلى لون أحمر بلون الدم. توقفت وأسندت ظهري إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب. واصل الصديقان مشيهما ووقفت هناك أرتجف من شدة الخوف الذي لا أدري سببه أو مصدره. وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردد صداها طويلاً عبر الطبيعة المجاورة." هذا ما قاله (ادفارد مونك) في مذكراته عن تحفته الفنية (الصرخة) التي لم تشتهر لِتجسيدها لحادثة أو مشهد، إنما لكونها جسدت حالة ذهنية وعبرت عن القلق الإنساني. فهل وعدنا (مونك) بشيء حينما صرخ وهرع إلى إبداعها؟ لا لم يفعل! وكذلك منحوتة (المفكر) لِ (أوقست رودان) فهو قد فكّر منذ 1880م حتى اليوم ولم يقدم عهوداً من الرخام والبرونز وها هو ما يزال باقيا مستكناً في باريس، وكذلك (فيفالدي) فلم نجد في أي فصل من (الفصول الأربعة) ما يعدنا به، ولا بعد مشاهدة (فاوست) ولا بعد قراءة (سمرقند) قد استوفينا عهوداً كانت قد قُطعت منذ البدء من قِبل (غوته) أو (أمين معلوف). الفن فقط يريد منك أن تعطيه فرصة وتهدأ، ليتمكن من إحداث معبر يتسرب من خلاله إلى روحك، ليرقص مع رتم تدفقاتك ونبضك، لينظّم نوتات سلالمك الداخلية، ويقدم لك وتراً من كمانه بدلاً من وريد بك مقطوع، لِتعود وتقدم له وريدك فيما لو أراد العزف ثانيةً. لكنه حتماً لا يعدك بنتيجة أخيرة، ولا بهدف مقصود، أو جنة موعودة. ولهذا التحرر تمكّن الفن أكثر من أي منتج بشري في التاريخ من أن يهذب الإنسان، فيما لو قارنا بينه وبين المعتقدات والعقائد والسياسات والعلوم فقد تفوق الفن عليهم جميعاً بصدقه في سلميته وأمانه. لأنه لم يعدنا بشيء. فالقطعة الفنية الواحدة تُقرأ وتفسر بعدد المرات التي تُشاهد فيها، ولا يتقاتل المتذوقون والهواة والمحبون والمهووسون حتى على القراءة في أن يجب أن تكون واحدة. ولم نشهد عبر التاريخ حركة فنية قامت بأعمال إبادة وقتل، أو ناقد قد اغتال متذوقاً أو مقتنياً لكونه قرأ لوحة بطريقة تختلف وتتعارض مع قراءته أو مع مشيئة الرسام. ولن نشهد ذلك! يقول (بيرسيس): "إن حبنا لما هو جميل لا ينبغي أن يقودنا إلى التطرف، كما أن حبنا للنواحي العقلية لا ينبغي أن تجعل منا حمقى". الفن بكنه الحر يروض وحشية البشر الذين لا يهتمون لشيء عادة ليس به منفعة مادية أو فائدة مباشرة ترتبط مع احتياجاتهم الغرائزية. هو كذلك لأنه لا يقدم جائزة كبرى، ولا حتى جوائز ترضية، ولذا فإن الاهتمام بتواجده وتعزيز حضوره في المجتمعات مهم وضروري لأنه يخلق اشكالاً للرقي الإنساني من الصعب إحداثها والمحافظة عليها في حياة تضطرب ما بين الجوائز المادية والجوائز المقدسة. وحتى نتمكن من الوصول إلى أكثر الفنون صعوبة وهي كما يقول (سيغمونت باومان): "أن نعيش مختلفين وإلى الأبد، حتى لا نكون آكلي لحوم البشر، الذين ينقضون ناهشين لحمك إن كنت غيرا عنهم، ويخلو العرش من الواحد المتفرد." فحتى تُحبَط وتُفشل استراتيجية آكلي لحوم البشر تلك، ونطمّ جحور النسر ذي الرأسين والغيلان، علينا أن ندعو إلى التعددية وننبذ التطابق والتماثل الهامد وذلك بواسطة الطريقة المثلى وهي إقامة معارض يبث في جوفها الفن، وإنشاء المتاحف والمسارح والدور الثقافية التي تعبق زواياها بسحر الموسيقى وترانيم الأدب، وكذلك الاهتمام بالفن والفنانين وذلك بتأسيس الجمعيات والجوائز وحتى كراسي البحوث. كل ما يلزم الأمر لازمة فنية تبدأ بتلويحة عصا أقرب إليها عصا موسى من عصا المايسترو، تحوّل القلوب المشمئزة من عُتوّ الحياة، وتتحول لتلتهم حبال الوهم والكدر والوحشية.