قبل عدة سنوات، قرأت رواية "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون، والتي تتحدث عن تجربة البائس "عزيز بنبين" والسنوات الثماني عشرة التي قضاها سجيناً في حفرة بمعتقل تازمامارت الصحراوي.. كانت الأحداث التي يرويها بن جلون على لسان السجين رهيبة وفظيعة، تحك أعصاب القارئ ببشاعتها.. أذكر أنني عندما انتهيت من قراءتها تساءلت: كيف يمكن للإنسان الضعيف الذي قد يقتله فيروس تافه أن يعيش الحياة التي عاشها عزيز طوال هذه السنوات في حفرة تفتقر لأبسط متطلبات العيش؟ كان "بنبين" وزملاؤه لا يخرجون من حفرهم إلا لدفن الموتى.. يعصبون أعينهم كي لا تخطفها أشعة الشمس، يحفرون التراب ثم يدسون زميلهم فيه وهم يحسدونه على مغادرة الجحيم.. كان موت أحدهم هو سعادة مُرة يخجلون من البوح بها لبعضهم البعض.. إذ كانت هي الفرصة الوحيدة التي تمنحهم لذة الشعور بالشمس والحرية ولو لدقائق. يصف "بنبين" في الرواية البؤس الذي عاشه وزملاؤه في المعتقل. ابتداء من الخبز اليابس والماء إلى أصوات خطوات العقارب التي دربوا أسماعهم على تمييزها لكي يتحاشوا لدغاتها.. لم يكن لديهم عناية طبية ولا غذاء كافٍ، كانوا حرفياً يعيشون على نهاية الحياة وبداية الموت طوال الثماني عشرة سنة. يقول عزيز: "كم هو صعب أن نموت، حين نُريد الموت". حكاية معتقلي تازمامارت هي الأبشع في أدب السجون، وإن كانت الحكايات الأخرى لا تقل عنها في البؤس كثيراً، فالدكتور فيكتور فرانكل نقل تجربته أيضاً في معتقل النازية وكانت هي الأخرى مأساة مرعبة.. يصف فرانكل مرارة التجربة في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى" فيقول: "لست أنسى أبداً كيف أني استيقظت ذات ليلة على أنين أحد المسجونين الزملاء، وكان يتقلب أثناء نومه، كان من الواضح أنه يعاني من كابوس مفزع، ولما كنت أشفق دائماً على أولئك الذين يعانون من أحلام مفزعة، فقد أردت أن أوقظ هذا الإنسان المسكين، وفجأة غيرت رأيي وسحبت يدي التي كانت مستعدة لأن تهزه، ففي تلك اللحظة صرت واعياً بالحقيقة التي نعيشها؛ وهي أنه لا الحلم ولا أي أمر آخر مهما بلغت درجة الرعب التي يثيرها، يمكن أن يكون أسوأ من واقع المعسكر الذي يحيط بنا والذي كنت على وشك أن أعيده إليه". هذه الحكايات الواقعية، تتفاوت في درجة بؤسها ومرارتها، لكنها مجتمعة تبعث على التأمل العميق في طغيان البشر وقدرتهم المخيفة على إيذاء بعضهم البعض، كما تكشف القوة الهائلة التي يبديها الإنسان في تحمل أقسى الظروف إذا ما استطاع المحافظة على هذه الجذوة البسيطة من الأمل مشتعلة في روحه.. وأخيراً، كلما شعرت بأن حياتك تعيسة وأنك لم تعد قادراً على تحمل لطمات الحياة، افتح إحدى روايات أدب السجون وتأمل تفاصيلها.. أعدك بأنك ستعيد التفكير بجدية في تفاهة ما تعانيه من صعوبات وأحزان.