هكذا هم المصلحون والمجددون على مر التاريخ، لا يمكن أن يُتركوا ليمضوا مع مشاريعهم دون عراقيل وإيذاء نفسي وبدني.. في ماضي التاريخ العربي الإسلامي، كما في حاضره، لا تقتصر الأرثوذكسية في ملاحقة ووأد من يخرج على السائد، على الفلاسفة والمفكرين فحسب، بل إنها امتدت، ولما تزل، لتشمل أيضا الفقهاء الذين لا يخضعون لمقولاتها الكلاسيكية حذو القذة بالقذة. والمصيبة أن المقولات التي حاكمت تلك الأرثوذكسية، ولما تزل، مخالفيها إليها، ليست مما قال الله وقال رسوله ثبوتا ودلالة، بل إن أغلبها، إن لم تكن كلها، مقولات وآراء وأحكام لأفراد تحكمت فيهم ظروف زمانهم ومكانهم، كما تحكمت فيهم رغباتهم ودوافعهم ومقاصدهم؛ بالإضافة إلى ما كان للسياق السياسي الضاغط من أهداف ومقاصد، لونت تلك المقولات بألوانها. الفقيه الأندلسي، أبو محمد بن حزم الظاهري، كان أحد ضحايا تلك الأرثوذكسية المتكلسة، إذ سلقته بألسنة حداد، اضطرته في ما بعد إلى اعتزال الناس. يقول الأستاذ، عقيل يوسف عيدان في كتابه (شؤم الفلسفة): "يعتبر ابن حزم الأندلسي، (توفي عام 456ه)، إحدى الشخصيات التي تصدت لجبروت الفقهاء، والمتكلمين، وأدانت أساليبهم في الابتزاز، وخنق حرية الفكر والتعبير؛ فقد اتهم ابن حزم فقهاء زمانه بالخلط بين الإيمان والتقنين الصارم للطقوس والشعائر الدينية، واتهمهم أيضا باختزال التعليم الديني في الحفظ الآلي/ التلقيني، أي ما كان يطلق عليه بالاستظهار للشروحات، وشروحات الشروحات، دون الرجوع إلى مصادرها الأصلية". إن "جريرة" ابن حزم التي نقم المتعصبون عليه بسببها تتمثل في أمرين، هما: أولاً: نقده للأصلين الثالث والرابع من أصول الاستنباط الفقهي التي وضعها الشافعي، وهما (الإجماع)، و(القياس)؛ حيث قرر أن "الإجماع بدون نص، لا يعدو أن يكون تحريماً لما حلله الله، أو تحليلاً لما حرمه الله"؛ وهو ما جعله، أعني ابن حزم، يحصر الإجماع ب"إجماع" الأمة على السنن العملية المشهورة، كما نُقِلتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كالعبادات. أما القياس فلا يعدو، وفقا لابن حزم، أن يكون ظنا من الفقيه بوجود مشابه بين النازلة الجديدة وأصل معين نزل فيه نص، إذ يقوم بإنزال حكم الأصل على الفرع، لغلبة ظنه بوجود مشابهة بينهما في علة التحريم؛ والظن، كما يقول ابن حزم، ليس تشريعا، إذ الأصل في الأشياء الإباحة. ثانياً: دعوته إلى استخدام القياس الأرسطي الذي يشتمل على ثلاثة حدود يربط بينها حد أوسط، يتميز بأنه يقيني؛ بحيث تكون فيه مقدمتان، إحداهما عقلية، والأخرى مستوحاة من النص، لتنشأ عنهما، عند إعمالهما، نتيجة قطعية، حِلاً أو حرمة، بدلا من أن تكون النتيجة ظنية، كما في القياس الفقهي. لقد تبين لابن حزم أن كثيرا من الفقهاء يعادون الفلسفة والمنطق، وبالذات الأخير، دون تمكن علمي يمكن أن يؤسس عليه رفض معقول. هذا الموقف دفع ابن حزم إلى دراسة الفلسفة والمنطق بتروٍ وتحقيق عميقين، فأدرك بعدها أنهما لا يتعارضان مع الإسلام؛ بل إن المنطق بالذات يمكن أن يكون معيارا يؤسس عليه قياس شرعي يقيني. ماذا حصل لابن حزم بعد ذلك؟ لقد جر هذا الموقف على أبي محمد عداوة الفقهاء المقلدين، فاتهموه، كما هي العادة، بالزندقة، وضيقوا عليه الخناق، وأغروا به العامة، بعد أن حذروهم من أفكاره "الضالة"؛ كما أغروا صدور الحكام ضده، وانتهى بهم الأمر إلى إحراق وتمزيق كتبه علنا، فاضطر بعد ذلك إلى الخروج من مدينة ميورقة في سنة (440ه)، ثم اضطر أخيرا إلى اعتزال الناس، والانعزال في أرض تملكها عائلته في مدينة (مانتاليشان)، حتى توفاه الله. وهكذا هم المصلحون والمجددون على مر التاريخ، لا يمكن أن يُتركوا ليمضوا مع مشاريعهم دون عراقيل وإيذاء نفسي وبدني. إن سطوة التقليد حادة، وسيطرته مطلقة، واستبداديته مرعبة، وعلى المصلح والمجدد أن يتمثل دائما قول الله تعالى "أفحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون".