ما هذا اللغز المحير فيما إذا كانت الكتلة البشرية نعمة أم نقمة؟! وبين مؤيد ومعارض وبين انهيار اقتصاد دول وازدهار أخرى؟ كلها أسئلة تستحق الغوص في أعماق الفهم البشري لماهية الحياة وكيفية جعلها ثروة.. يقال إن تزايد تعداد السكان كارثة! ويقال إنه ثروة قومية لمن أحسن إدارته! وكيف يكون تعداد سكان ماليزيا على سبيل المثال كارثة بالرغم من ذلك التمدد الاقتصادي فيها! اليوم وصل تعداد سكان جمهورية مصر العربية 92 ويزيد وحملات التوعية ترصد وترقب وتتابع والخوف يملأ الحناجر والصدور ليس في مصر فحسب وإنما في كل دول العالم المتحضر أيضا، حتى وُصف في مؤتمر السكان في بكين عام 92 أنه كارثة وخطر على كوكب الأرض! فهل نحن بصدد كوارث بشرية على وجه الأرض؟ بطبيعة الحال للعلماء شأنهم في خصوصية الكوكب ومدى تأثير الانتشار البشري بكثافة على وجه الارض؛ سواء ما أسموه بالاحتباس الحراري، أو التلوث البيئي، أو ما إلى ذلك من سلة الغذاء العالمي الخ.. إلا أن هناك تجارب عالمية نجح فيها تزايد السكان، بل عملت على نهضتها وقوتها ولنا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم خير دليل حين حث على التناسل؛ فإذا ما تدبرنا الحديث الشريف من جهة وتأملنا ما يضج به العالم من دعوات من جهة ثم التأمل في تجارب الدول الناهضة بتعداد سكانها وقوة اقتصادها من جهة أخرى لوجدنا أنفسنا نذهب إلى حديث الرسول بتلك النصيحة. لست من متخصصي التنمية البشرية ومداركها ولكنني أتناول ما يُطرح بالنقد والتحليل للوصول إلى ما هو حق وناهض، وألا ننخدع بما يُقال وبما يُسمع بدون تحليل نقدي. حقيقة الأمر أن ما وصلنا إليه هو أن البشر ثروة قومية اقتصادية وسياسية وتنموية وعلى كل المحاور، ولكن إذا ما أُحسنت إدارتها من قبل دولهم والمعنية برفع كفاءاتهم وتربية وجدانهم. وإلا فكما يُقال: يصبح الأمر كارثة. فلماذا لا يتم تنمية هذا العطاء من الله في إعمار أرضه ولماذا تتخاذل الدول المعنية بشعوبها في كيفية إدارة الرؤوس؟ سؤال محير والكل ينخرط في وسائل الإعلام بما آتاه الله من قول وبلا فعل وفي جعجعة بلا طحن وهنا يكمن العجز الكلي وليس الجزئي لتلك الدول. والحقيقة أن الفضاءات تضج بما يسمى ورش التدريب والتأهيل والتنمية البشرية وغير ذلك من مسببات سكب المال في الجيوب! بينما الأمر ليس بهذه السهولة وليس بهذه السيولة أيضا! ما هذا اللغز المحير فيما إذا كانت الكتلة البشرية نعمة أم نقمة؟! وبين مؤيد ومعارض وبين انهيار اقتصاد دول وازدهار أخرى؟ كلها أسئلة تستحق الغوص في أعماق الفهم البشري لماهية الحياة وكيفية جعلها ثروة. ومن خلال استقراء ما اجتاح العالم من تغيرات وخاصة في العقود المنصرمة من ثورة معرفية ومعلوماتية نصل إلى أن علم اقتصاد المعرفة قد أصبح أهم علم في القرن الواحد والعشرين. فلم تعد الكتلة البشرية تقاس بكثرة أو بقلة كثافتها بقدر ما تقاس بمعارفها ومدى قدرة مبدعيها على الخلق والابتكار؛ حتى أصبحت الإستراتيجيات التنافسية بين الدول هي الرهان الوحيد على عقول مبدعيها ومفكريها! فهل وطننا العربي جاد بالاهتمام برؤوس البشر قبل أقدامهم عندما نرى الأموال والإعلام والمحللين والقنوات الخاصة والعامة تدور حول الأقدام وما تنتجه من أهداف في آخر كل مباراة! دعونا نذهب قليلا إلى التاريخ وإلى نهضة الأمم وانتكاساتها، ونتأمل فيما كانت تمارسة ونقارنه بنهضتها الفكرية والإبداعية والعلمية! فلنقارن بين الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية ثم نرجعهما فيما بعد لما أسميته (بعلم اقتصاد الوجدان) - والذي هو موضوع كتابي الجديد - وهو البوتقة الأساس للإبداع والابتكار. قامت حضارة اليونان على الفكر والمفكرين والإبداع وثقافة الوجدان في كل مجالات الحياة حتى وصلت أوجها في القرن الرابع قبل الميلاد فكان لحضارة الإغريق القديمة تأثير هائل على اللغة والسياسة والنظم التعليمية، والفلسفة، والعلوم، والفنون، فأعطت أصالة لتيار النهضة خلال عصر التنوير في القرن 16 و17 بأوروبا الغربية، واستعادت النشاط مرة أخرى خلال العديد من النهضات الكلاسيكية الحديثة في القرن ال 18 وال 19 بأوروبا والأميركتين، ثم أتت عليها الحضارة الرومانية والتي كانت تتسم حياتهم بالخشونة، وتبحث على اللذة وتعتمد القوة العضلية في كل شيء! وهناك فرق كبير بين استخدام الوجدان واستخدام العضلات. ولذا ساد العنف حضارتهم واتسم شعبهم بالفضاضة وبالغلظة حتى أن الفرجة لديهم كانت بإطلاق الأسود على البشر في حلبات الفرجة والمحكوم عليهم بالإعدام. ثم تُصمم ممرات (التقيوء) بجوار الموائد لكي يتقيؤوا حين تمتلئ بطونهم ليستمروا في تناول الطعام. هذا الإفراط في اللذة وفي الفضاضة والعنف وثقافة العضلات هو ما قضى على التذوق والإبداع لديهم حتى أن د. لويس عوض رحمه الله كان يقول إن الرومان يختلسون مفكري الإغريق في ديارهم لكي يقوموا بالإبداع لهم؛ ولذا تحطمت الحضارة الرومانية على صخرة الإبداع والفكر والوهج الوجداني الشفيف الخلاق. ولذا كان لزاما علينا أن ننوه لخطورة إهمال تربية الوجدان لأنه الركيزة الأولى للعمليات العقلية للنهوض برأس المال البشري المتنافس عليه. كما لا بد أن ندرك مدى أهمية تجاوز الفرد إلى الجماعة ليصبح الأمر إبداعا جماعيا ولن يتأتى ذلك إلا بدراسة وإنشاء ما أسميته "علم اقتصاد الوجدان".