تحدثت سابقا عن أن أفكارنا التي نملكها قد تستعبدنا من حيث لا ندري فتصبح بوجهة نظرنا الحقيقة المطلقة ونحاول أن نثبت ذلك حتى وإن بدا لنا غير ذلك. عندما كتبته لم يكن في ذهني مفكر بعينه ولكني عندما استمعت لمحاضرة الأستاذ إبراهيم البليهي قفزت تلك المقالة إلى ذهني وكأنها كتبت له. تحدث كعادته عن التخلف وجعله الأصل وأن الحضارة تستلزم القدرة على التغير.. ثم تحدث عن الحضارة العالمية واعتبرنا عالة على العالم لم نساهم بحضارته بأي شكل. واعتبر الحضارة الغربية الحالية امتدادا للحضارة اليونانية من دون أن يكون للعرب دور في ذلك. ثم ردد جملة نمطية حول زندقة مفكرينا وتكفيرهم وقتل بعضهم وحرق كتب آخرين كابن رشد رحمه الله ؛ ويزيد أننا ليس لنا حق أن نفتخر بهم لأننا نكفرهم ولا نؤمن بما يقولون. وكأن المطلوب من المجتمع أن يؤمن بما يقوله المفكرون بغض النظر عن محتواه. لست هنا متصديا لمحاضرته لأن فيها أشياء تنطبق على واقعنا اليوم وليته حصر نقده على واقعنا من دون أن يظلم تاريخنا ومفكرينا ودورنا في تطور الحضارة العالمية في شتى نواحيها. ولم أجد استثناء لهذا الدور إلا خلال الحقبة العثمانية أما بقية الحقب فقد ساهمت بدور كبير ولكل منها أعلام لا يمكن أن ينكر دورها أحد. وهذه بعض القامات من مختلف الحقب "ابن الهيثم والفارابي وابن خلدون والإدريسي وإسحاق الموصلي وابن رشد وابن سينا والبيروني وغيرهم كثير".. وبرغم كون الحقبة العباسية هي الأكثر ثراء إلا أن الدور الأهم في نقل حضارة الشرق والغرب إلى أوروبا هو الدور الأندلسي. أما نمطية التكفير والزندقة للعلماء فهي اختزال لحياتهم في أحداث حدثت لهم في أواخر أيامهم لعدة أسباب منها الغيرة المهنية والمكيدة ومنها مقاومة الفكر الجديد التي أشار لها الأستاذ البليهي. ويجب التنويه أن التكفير والزندقة طالا بعض علماء الدين للسبب ذاته وليس لرفض الفكر. أما نمطية رفضنا وتكفيرنا لمفكرينا فلنأخذ ابن رشد مثلا. أستاذنا أشار لحرق كتبه وهذه حقيقة ولكنها بعض الحقيقة. فما هي الحقيقة الكاملة؟ الحقيقة أنه عاش 75 عاما هجريا.. وقد تولى القضاء في أشبيلية ثم قرطبة، وكان خلالها مستشارا وطبيبا للخليفة أبي يعقوب. وبعد وفاة أبي يعقوب خلفه ابنه المنصور فزاد ابن رشد قربا ورفعة وهذا بدوره أوغر صدور حساده فكادوا له عند المنصور باسم الدين فنفاه الخليفة إلى قرية اليسانة لسنتين وأمر بحرق كتبه، وبعد أن تبين له بطلان التهم الموجهة إليه دعاه وقربه وأصبح من كبار رجال الدولة إلى أن توفي بعدها بعام. وهذا يعني أن ابن رشد أمضى من عمره العملي أكثر من 35 عاماً معززا مكرما وتولى أكبر المناصب وألف في شتى العلوم.. فكيف يقبل مفكر كبير كأستاذنا البليهي أن يختزل ذلك في مكيدة سنتين من النبذ وحرق الكتب.