رشا القاسم إنه الشيء الذي من الصعب تحقيقه، أعني: أن يكون لديك قائمة بسيطة من الأشياء السعيدة، خصوصاً عندما تكون عراقياً؛ كيف لا، إنه البلد شبه الوحيد في القرن الواحد والعشرين الذي حظي بأكثر القنابل نزولاً من السماء، بصرخات الأطفال في المساء وهم يحترقون بأشعة اليورانيم ويخافون من أصوات الطائرات؛ لأنها تفسد محاولات أمهاتهم في طمأنتهم بأن الليل ليس مرعباً، ليس مخيفاً. في العراق كل شيء تغير: أشكال الشوارع، واجهات البنايات، عناوين المقاهي القديمة، الحريات، وجوه العابرين. كل شيء، كل شيء، إلا الشعر والحزن. رشا القاسم لأنها شاعرة وحزينة لم تكن كواجهات البنايات أو كعناوين المقاهي والشوارع القديمة التي تهدمت، كانت المرأة التي تكتب بأكثر الكلمات اتساعا لتبقى، بل لأنها لا تملك سوى اللغة في منفاها البعيد، البعيد جداً عن نهر الفرات. * في المقدمة: ترجمت دواوينك لعدة لغات، كان لها صدى جميل في الأوساط غير العربية في حين أن حضورك العربي يكاد يكون معدوما، ما السبب؟. * أعتقد أن مسألة تأخري في نشر مجموعتي البكر كانت بسبب التنقيح المستمر والمراجعة ما جعلني أتأخر في تحديد وقت مناسب للنشر وكأي شاعرة أُرغمت على دخول دوامة دور النشر العربية التي لا تدعم الكاتب إلا على أساس مادي غالبًا،لكنني سرعان ما خرجت منها قبل أن أنسى طريق العودة. قبل خروجي من العراق أكثر ما اعتمدت عليه في تعريف الآخرين على كتاباتي هي مواقع التواصل الاجتماعي ومن ثم الصحف لكنني سرعان ما ابتعدت. يبدو أن الأمر له علاقة بما يحيطك، أنت تخفت حين يطفئ الآخرون روحك، تبرق حين تكون بجانب نفسك، أو مع أشخاص بعيدين عن الأذى قريبين منك. هكذا فضلت البقاء بعيدة، تركت الأمر للوقت. وجدت نفسي وقد ترجمت نصوصي للغة الإنكليزية والسويدية وتمت دعوتي للقراءة في مهرجانات أقيمت في السويد، وقعت عقدا مع دار النشر السويدي "10TAL"، قرأت في المهرجان العالمي للشعر ومهرجانات أخرى، انضممت إلى فريق عمل رائع من شاعرات ومترجمات سويديات وعملت معهن في مشاريع مهمة وقريبا ستتحول بعض نصوصي إلى أغانٍ بعدة لغات من قبل فرقة سويدية قرؤوا أشعاري في مجلة سويدية. أعتقد أن هذا كله يعود للبيئة الصالحة والمناسبة للأدب بيئة مريحة ومحفزة على العطاء، على التصديق في ما يمكن أن يفعله الشعر في حياة الإنسان كيف له أن يحول حياته إلى أخرى.. وجدت نفسي بعيدة وفي عتمة واضحة أواصل السير. * أدرتِ أمسيات لشاعرات سعوديات؛ بصدق ودون استعراض قائمة طويلة من المجاملات كيف تقيمين تجربتهن؟. * لست ناقدة ولا أزعم أني قادرة على تصنيف الشعر بين المدهش والأقل دهشة لكنني اعتمدت على قلبي. أعتقد أن لكل قارئ هناك أسلوب معين في الكتابة يشده ويجذب انتباهه أكثر من غيره بحسب مخزونه الثقافي واطلاعه. كل نص يعرض قلبي للخفقان للبكاء أو الذكريات هو شعر، ذلك يذكرني بما قاله كارل ساندبرغ: "الشعر حقيبة التذكارات غير المرئية". بالنسبة لي التجربة بحد ذاتها كانت جميلة جدا خصوصًا أن هذا المشروع يعني الكثير لي كونه المشروع الأول الذي أشارك في تنظيمه والإشراف عليه وكانت جزء من مهامي في المشروع، اختيار تجارب شعرية نسائية من البحرين والسعودية، بعد الاطلاع والتفكير اخترت شاعرات من البحرين بإمكاني أن أتحدث عن قصائدهن ك شاعرة تؤمن برأي الكاتب الفرنسي لانسون القائل: "لا يمكن أن نتطلع إلى تعريف أو تحديد لصفات عمل أدبي أو قوته ما لم نعرض أنفسنا قبل كل شيء إلى تأثيره!." قرأت لهن قصائد تقع في القلب وتبقى. ما يخص شاعرات السعودية لم أستطع اختيار أي اسم سوى شاعرة لم أجد لها أي حساب في مواقع التواصل الاجتماعي ليتسنى لي الاتفاق معها حول مشروع الترجمة ولذا كان اختيار الشاعرات السعوديات على عاتق أشخاص مشاركين معي في المشروع ولذا تم تقسيم العمل بيننا على هذا الأساس. هن أثبتن وجودهن رغم المساحات المحدودة التي واجهت تحليقهن إلى سماء الشعر متمنية لهن المزيد من التقدم إذ لا غنى عن اللمسة الصحراوية العذبة. * في قصيدة "أشياء لا علاقة لها بالوحدة" كنتِ تتعمدين حرق بدلة أبيكِ العسكرية كي لا يموت مثل إخوتك الإحدى عشرة الذي رحلوا للأبد بسبب الحرب؛ كل ذلك يجعلني أقول لكِ: هل في حياتك ما يستحق أن يعاش بعد كل هذا الحزن واللامبالاة؟. * كتبت هذا النص وعشته.. واجهت ألمه لكنني لم أستطع تحويله إلى قصيدة. كان يريد أن ينضج يتمدد ويتحلل على مهله ثم يسمح لي بإخراجه. دائما هناك مساحات للفرح وأخرى للحزن لكن الحزن أثره أقوى كما لو أنه دائم ومستمر. سابقا كنا قد حاولنا مع الحياة لو أنها تصقلنا، تجعلنا أقدر على تلقي الطعنة كررنا الحزن مرات ومرات فَشلنا في استيعاب جرعات الألم، ولكي لا نموت وقعنا في اكتشاف "الكتابة". ولكن الكتابة مصيدة الحزن، تكتشف ذلك حين تنزلق فيها فتعرف أنك لا تبكي مرة لأن روحك قد خدشت بل تمعن في البكاء حين تحاول أن تصف الخدش. لكن حزني هذا كله كان في الرحلة..في طريق البحث عن السعادة ويبدو أن من وقع على الكتابة انهمك فيها ونسى أنه سلك الطريق من أجل شيء آخر. يقول وديع سعادة: "هذا كلُّ ما استطعتُ أن أفعله في حياتي: محاولةُ مصادقة الحياة". * ثيمة الحب تخفت كثيرا في نصوصك؟ حدثيني عن الرجل في حياتك، عن القصص الغرامية، عن الرسائل السرية، عن انتظار اللقاء، هل هو متواجد في سياق العمر الذي تعيشيه الآن أم أن هناك عقدةً ما كأغلب المبدعات؟. * الرجل حاضر في نصوصي مختبئ بثياب أبي في سياق النصوص وليس ثمة عقدة تجمعني بالحب،الطريق إلى الحب والحياة كانت وعرة بما يكفي لأبني بيتًا لكنني نجحت على الرغم من أن قرار الحب غالبا ما تقابله الخسارة، خسارة كل ما عداه حتى تحصل على احتمالية بقائه،لأننا ببساطة نعيش في هذا العالم! لقد كتبت عن الحب لكنني لم أسرف في الكتابة عنه لأن من يعيش الحب أعتقد أنه سيفقد قدرة كتابته أعني فيما يخص الكتابة عن شخص ما. في النهاية هناك مواضيع لا حصر لها موجودة في الشعر وكل قصة نص باعتقادي أيا كان نوعها يضع فيها الشاعر قدرًا كبيرًا من المحبة الموجودة داخله. * حين سألوا الروائي كافكا لماذا تكتب قال: أنا فقط أريد أن أنقذ نفسي من هذا العفن الذي تعيشه البشرية، نيتشه قال ذلك أيضاً، كل ذلك يجعلني أتساءل: بوصفك شاعرة شاهدت الموت عن قرب، وعاشت في المنفى هل فعلاُ بإمكان اللغة أن تنقذنا من الأشياء المؤذية التي تحيط بنا؟ * ساعدت الكتابة بإنقاذي،ضمدتْ الكثير من الجروح وفتحت أخرى، مرات عدّه أسقطُ من حكايةٍ في زقاقٍ ضيق من الحياة وأجد باب الكتابة هو المفتوح أمامي. كل ما تحدثنا عن حياتنا السيئة أفرغنا دواخلنا منها إذ لا يمكن أن تتنفس برئتين من دخان،لا يمكن أن نكون أفضل حالا إذ لم نكتب،الشعراء يعيشون برداءة صحية ولا غنى عن الشعر ك مسكن. * ليس هناك شاعر بلا حزن والمتفائل مجرد شخص يعاني من البلاهة كما يقول ساماراغو، جميع نصوصك كانت تماماً هكذا أعني بالجرعة الأقصى من التشاؤم، ما السبب؟. * الحزن مساحتي في الكتابة، حياتي الكاملة التي حولتها إلى مجموعة شعرية"أرمي العصافير على شجرة العائلة"حزني هناك صهرته حتى كانت الكلمة؛ لكنه لم يكن خياري لقد كان الشقاء في سلك الطرق حتى السهلة منها يضع يدي على الحزن ويعرفني عليه. تمنيت لنفسي حياة مليئة بالشعر والفرح إلا أن النقيض بالنقيض لا يجتمع كل الكلمات الجميلة.